الأجدى أن نحفظ سايكس - بيكو

  • 3/10/2014
  • 00:00
  • 23
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: يميل كتاب وساسة عرب في ظروف الفوضى الراهنة إلى إطلاق أحكام قاطعة في شأن مستقبل الدول العربية. بعضهم يستعيد أحاديث عن مشاريع تقسيم. تقف خلفها وتسعى إليها قوى صهيونية أو استعمارية مستنداً الى منشورات قديمة او حديثة، وبعضهم الآخر يتحدث عن سقوط مشاريع التقسيم ليقول مثلاً ان اتفاق سايكس -بيكو الذي تم بموجبه ترسيم حدود دول المشرق العربي قد انتهى والبحث جار عن اتفاق جديد، لكن جميعهم يفترض ان الدولة الوطنية العربية القائمة (القطرية في التعبيرات القومية) سقطت أو هي في طريقها إلى السقوط. في الواقع تطيب لهؤلاء العودة الى اتفاق سايكس -بيكو- سازونوف( الشريك الروسي في حينه) من دون تدقيق في مضمونه وفي خرائطه وظروفه، ومن دون العودة تلك سيصبح سهلاً إطلاق الأحكام وطرح الاستنتاجات. وضع الاتفاق الثلاثي المذكور في خضم الحرب العالمية الأولى بهدف اقتسام تركة السلطنة العثمانية «الرجل المريض»، وخرجت منه روسيا بسبب الثورة البلشفية، فبقيت خطة بريطانية - فرنسية لاستكمال تقاسم النفوذ. في المنطقة الممتدة من الخليج العربي وصولاً الى المغرب. كانت بريطانيا في تلك الأثناء تحتل او «تحمي» ساحل الخليج امتداداً من الكويت وصولاً الى عدن مروراً بالبحرين والإمارات وعمان، كما كانت تسيطر على مصر وقناة السويس، وفي المقابل تحتل فرنسا تونس والجزائر والمغرب، فيما تخلت السلطنة العثمانية لإيطاليا عن ليبيا بمقتضى اتفاق لوزان 1912. كان الاتفاق البريطاني الفرنسي يرمي الى استكمال السيطرة وتقاسمها ولم يتنطح الى اقامة دول ذات حدود، وتشير خرائطه الأولى الى سلسلة خطوط تجعل النفوذ البريطاني يمتد نزولاً من البصرة نحو ساحل الخليج والجزيرة العربية، وتصنف الموصل وكيليكيا ضمن منطقة النفوذ الفرنسية. الا ان تلك التقسيمات عدلت في شكل جذري بعد نهاية الحرب تحت ضغط عوامل عدة أبرزها قيام عصبة الأمم المتحدة وتبنيها مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها (وهو شعار الرئيس الأميركي وودرو ولسون ورفعته أيضاً الثورة الروسية)، ونجاح مصطفى كمال اتاتورك في فرض جمهوريته على انقاض السلطنة العثمانية، و قيام الحركات الاستقلالية العربية بالضغط من اجل الاستقلال خصوصاً في لبنان وسورية والعراق. لم تقم الدول العربية المشرقية في حينه على اسس تقسيمية دينية او مذهبية او عرقية بل على العكس شكلت وحدات متنوعة في رهان على اندماج وطني لاحق، وخلال مخاض صعب سارت تلك الدول على طريق ارساء مؤسساتها الدستورية، مواكبة دولاً عربية اخرى أبرزها مصر التي قادتها انتفاضات متلاحقة الى وضع دستور 1923 في زمن حزب الوفد، ولم يكن مصادفة ان ينجز لبنان دستوره الأول بعد 3 سنوات في 1926 وأن يضع فوزي الغزي مشروع الدستور السوري في منفاه (دوما/البترون/شمال لبنان) عام 1929 متجاهلاً التقسيم الفرنسي لسورية إلى دويلات ستنتهي في دولة سورية واحدة عام 1934. حققت تلك الدول استقلالها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانكفأ الفرنسيون في المشرق قبل ان يغادروا دول المغرب العربي اثر ثورات تحرير، ولحقهم البريطانيون الذين سيغادرون جنوب اليمن في نهاية الستينات قبل ان يخلوا ساحل الخليج العربي في مطلع السبعينات. هذه المقدمات التاريخية تبدو ضرورية رداً على القائلين إن الدولة الوطنية العربية لم تقم او أنها مجرد اصطناع استعماري، وبين هؤلاء نجد القومي العربي والإسلامي واليساري والممانع وغالبيتهم تتعامل مع بلدانها. كساحات او منصات للانطلاق نحو مشاريع «وحدوية» قومية او اسلامية فشلت في إنجارها. وهي رد كذلك على الإسلاميين الصاعدين اليوم في العالم العربي والذين تجمعهم على تناحرهم فكرة دولة الخلافة او دولة ولاية الفقيه تزول فيها الحدود وتتوحد الأمة المفترضة من اندونيسيا الى المغرب. في الواقع، صمدت الدولة في العالم العربي رغم تحديات كثيرة. التحدي الأول كان قيام دولة اسرائيل وانتصارها على دول الجوار الفتية، والتحدي الثاني كان سلسلة الانقلابات العسكرية التي وأدت تجربة التطور الطبيعية للحياة السياسية الدستورية، والتحدي الثالث اشتداد الصراع بين المعسكرين في سياق الحرب الباردة، والرابع قيام الثورة الخمينية في ايران في سنة الغزو السوفياتي لأفغانستان، هذه السنة 1979 ستشكل مفصلاً في تحديد مستقبل الاستقرار في الشرق الأوسط «الكبير» حيث عملت اميركا على استنفار السنة العرب والأفغان والباكستانيين للجهاد في افغانستان فيما كانت الثورة الإيرانية تضع لبنات «جهادها» الأولى باتجاه العراق والخليج ولاحقاً سورية ولبنان واليمن، ما سيعزز الانقسام المذهبي والقومي في طول العالم العربي وعرضه. كثيرون يناقشون ويبحثون اليوم في مآلات الدولة في العالم العربي، وتكتنف الخلاصات التي يصلون اليها مخاوف جدية على ما تحقق منذ التحرر من الاستعمار، او حتى في رعايته، من مكاسب على طريق بناء المؤسسات الوطنية خصوصاً ان الثورات التي قامت تحت العنوان الاستشراقي «الربيع العربي»، لم تتمكن من تحقيق انتقال سلس نحو الديموقراطية وحفظ حقوق الإنسان في ابسط معاييرها، بل هي مهددة بالاندفاع نحو بؤر مظلمة اشد قتامة من الواقع الذي كان سائداً. فهذه ليبيا تبحث عن دولة في غابات المسلحين المتنازعين على مزيد من التطرف الديني، وجارتها تونس تقاوم الانزلاق الى حرب اهلية بسبب نزاع على مكاسب ثورة «ياسمين» تخوضه تنظيمات التطرف في ما بينها وفي مواجهة تراث البلاد المدني الغني منذ الاستقلال. وفي مصر ثورة في الثورة اثر محاولة التيار الديني ممثلاً بالإخوان المسلمين وضع اليد على الدولة والمجتمع، أما في سورية فكارثة كبرى حيث تمكن النظام من تحويل «لائحة مطالب» إلى حرب أهلية مذهبية إقليمية وأممية إسلامية. من الذي يهدد الدولة الوطنية العربية الآن؟. هل هو الاستعمار والاحتلال والإمبريالية والصهيونية ؟ قد يصح تحميل تلك الجهات مسؤولية تاريخية ما، وبالتأكيد هي متهمة باحتلال فلسطين ومخططات التوسع. ولكن هل يصح تحميلها كل ما يجري في العراق وسورية ولبنان ومصر وليبيا وتونس...؟ يطرح الإسلاميون «هوية متخيلة». في مواجهة فشل الأنظمة في صوغ التعددية القومية والدينية والسياسية. ويصنف باحثون حركة الإخوان المسلمين كانشقاق عن الإسلام، أي أنها «تحت إسلامية» وكذلك يرون في ولاية الفقيه انشقاقاً داخل الإسلام الشيعي. وفي مواجهة ذلك ينهض فعل ثقافي عربي يتمسك بالدول العربية القائمة وبتطوير أنظمتها وبرامجها التربوية والتنموية بعيداً من التطرف الديني والسياسي والعنصري، وتعزيز منطق المواطنة وتغليبه على شتى أنواع التفرقة. في الحقيقة، ترك لنا الاستعمار وسايكس - بيكو مرغماً أو طواعية، إرثاً يبدو أن الأجدى حفظه في أمان.   * صحافي لبناني من أسرة «الحياة»

مشاركة :