إختار الناقد البارز الدكتور حسين حمودة عنوانًا لافتًا لأحدث كتبه "ميادين الغضب" جعل القارئ يتوقع أنه كتاب يدرس الروايات كميدان للسخط والغضب من مآسي الواقع. لكنه سرعان ما يفاجئ هذا القارئ بإجابة مفادها أن هذه القراءات التى يتضمنها كتابه، ليست أكثر من محاولة للإصغاء إلى نبرات في نصوص مجموعة من الروايات المصرية كتبها روائيون وروائيات، ينتمون وينتمين، إلى فترات زمنية متباينة، وإلى اتجاهات متعددة، وإلى طرائق متنوعة في الكتابة، منهم: إدوار الخراط، أمينة زيدان، بهاء طاهر، سهى زكي، سيد البحراوي، صبري موسى، صنع الله إبراهيم، عبدالحكيم قاسم، عبدالفتاح رزق، علاء الأسواني، مكاوي سعيد، مي التلمساني، ميرال الطحاوي، نجيب محفوظ، نعمات البحيري، نعيم صبري، يوسف أبو رية، يوسف إدريس. وفي تقديمه لهذا العمل يقول الدكتور حسين حمودة: "الحقيقة المؤكدة، التي أستطيع أن أسوقها هنا، خارج كل زعم، ودون أى تساؤل، هي أنني إخترت للقراءة روايات رأيت أنها "مهمة" بمعنى ما، وأنها "جميلة" على نحو أو آخر، لكتاب وكاتبات لا تخلو أعمالهم وأعمالهن أبدًا من قيمة. رأت هذه القراءات في الروايات التي توقفت عندها ما رأته، وطبعًا لم تر ما لم تره، وبقدر البصيرة وبقدر العمى، في هذه القراءات، يمكن أن تتسع أو تضيق الفكرة الصحيحة، المعروفة، التي تؤكد أنه ما من سبيل أو إمكان لقراءة كاملة، أو نهائية، لأي عمل أدبي، الروايات التي تناولتها هذه القراءات ستظل مفتوحة على ما لا حصر له من قراءات أخرى ممكنة، يستكمل بعضها بعضًا". وهذا الكتاب الذي يقع في قسمين، اهتم مؤلفه في القسم الأول ببحث كل رواية على حدة، يستخلص منها ما تريد قوله دون أن يجعل فكرة ما، تخصه، تسيطر على القراءة، على العكس من القسم الثاني، الذي كانت فكرته هو، كناقد، هي الأساس الذي بناءً عليه اختار مجموعة روايات مرة واحدة في كل دراسة للتأصيل لهذه الفكرة، فمثلًا، في القسم الأول يترك الناقد رواية "فساد الأمكنة" لـ صبري موسى، لتقدم لنا "الملاذ المحال"، في حين أنه في القسم الثاني، أراد أن يدلل على فكرة "المدينة سجنًا.. العالم سجنًا" في الأدب، فاختار ثلاث روايات، ترسخ موضوعاتها لهذا المفهوم، لـ صنع الله إبراهيم، وضياء الشرقاوي، وعبدالحكيم قاسم. ألحق حسين حمودة قسمي الكتاب بدراسة قصيرة استقى منها عنوان كتابه، "ميادين الغضب.. قراءة في مشاهد الرواية"، حيث حاول فيها الربط بين العمل الروائي، وميدان المدينة، هذا الميدان الذي صار، بعد عدة ثورات ربيعية عربية، رمزًا للغضب، فيقول: "ميادين الغضب" حيز روائي يمكن أن يسمح بتعرف أبعاد متنوعة تتصل بعوالم الشخوص الروائية، وبالوقائع الكبرى التي تنخرط فيها، وبالأواصر التي تصلها، أو لا تصلها، بالآخرين من حولها، وبعلاقاتها بالفضاء الأكبر، المكاني والزمني، المرجعي أو المتخيل، المحيط بها. ويستدرك: يرتبط (الميدان) من جهة، بموقع متوسط في سلسلة "المواقع المكانية" التي صاغها يوري لوتمان، والتي جسدت درجات متعددة، متدرجة، من معنى "الألفة" ومعنى "الانتماء": غرفة الإنسان، شقته، بيته، الشارع الذي يسكنه، الحي الذي يعيش فيه، مدينته التي يتوسطها غالبًا ميدان، وطنه، وأخيرًا العالم. بين حلقات هذه السلسلة يتحرك المرء، ذهابًا وإيابًا، ويتضاءل إحساسه بالألفة والانتماء خلال انتقاله بين حلقة وأخرى، من أول السلسلة إلى آخرها، ويرتبط الميدان، من جهة ثانية، بالأماكن المفتوحة التي تقترن، عادة، بممارسات بعينها تقوم على نوع من "التخارج"، حيث التعاملات في هذه الأماكن تنأى، على الأرجح، عن العالم الذاتي، الفردي والشخصي، وتتحرك في مجال التقاء الفرد بالآخرين الذين ربما لم نرتبط بهم ارتباطًا وثيقًا من قبل، والميدان، بهذا المعنى، يمكن أن يمثل امتدادًا جديدًا لـ "الساحة" في المدن القديمة". ويضيف حسين حمودة: "يهب تناول الميدان الروائي، بهذا كله، إمكانًا غنيًا لتناول الشخوص الروائية التي تتحرك فيه، أو تتماس مع الآخرين داخله، خلال وقائع جماعية مشهودة، وخلال هذا السياق، الذي يجمع الشخصية الروائية بمن حولها داخل "ميدان المدينة"، يمكن أن تعاد صياغة علاقة الآخرين بالفرد، فضلًا عن أن هؤلاء "الآخرين" قد يتحولون من جماعة صغيرة إلى حشد كبير، غير محدد وغير محدود، بالإضافة إلى أن الميدان، روائيًا، في تجربة "غضبه"، يمكن أن يجسد حالة استثنائية تعتري هذا المكان، يخرج الفرد فيها من دائرة أفعاله المعتادة، وربما الرتيبة، إلى نطاق ممارسة أخرى، يعد الاحتجاج علامة عليها ووسمًا لها".
مشاركة :