النسخة: الورقية - دولي تبدو الأزمة الأوكرانية، بأسبابها وتطوراتها وما وصلت إليه، أشبه بانهيار جدار برلين في التسعينات. وأياً كان ما سترسو عليه في نهاية المطاف، لا شك في أن ما بعدها لا يمــــكن أن يكون كما قبلها، لا بالنسبة إلى روســـيا- تحديداً رئيسها فلاديمير بوتين الحالم باستعادة «دور سوفياتي» لبلاده في العالم- ولا على صعيد الاتحاد الأوروبي وعلاقـــاتـــه المــقبــلــة مع شرقه الروسي وغربه الأميركي، ولا، في النـــهاية، علـــى صـــورة الــعالم المقبلة وعلاقات القوى فيه... تكاملاً، أو تنافساً حراً، أو حرباً باردة جديدة ولكن بأدوات وأساليب مختلفة هذه المرة. فالأزمـــة التي «لا مثيل لها» منذ انتهاء الحرب العالمية الثانـــية، كما وصفها رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر، لجهة قيام احدى الدول الخمس الكبرى في عالم ما بعد هذه الحرب، باحتلال أراضي دولة أخرى وضمها اليــــها، لا يمكن أن تقف عند حدود روسيا وأوكرانيا على رغم ما بين الدولتين من تاريخ مشترك واختلاط عرقــــي وامتزاج شعبي، ما جعل منهما دولة واحدة لنحو قـــــرن تحت علم الاتحاد السوفياتي. هي، مقارنةً بالغزو الأميركي- البريطاني- الفرنسي لأفغانستان، والآخر الأميركي- البريطاني للعراق (وهي الدول الأربع الكبرى الأخــــرى) إخلال غير مسبوق بنظام ما بعد الحرب على رغــــم التشابه بين الغزو الخارجي لأفغانستان والعراق من جهــــة والغزو الداخلي لشبه جزيرة القرم من جهة ثانية. فقد أدى الأولان إلى تغيير النظام في الدولتين، وانتهى إلى انسحاب الغزاة من إحداهما وإعلان قرب الجلاء عن الثانية، فيما الحال ليست كذلك في «غزو» روسيا لدولة القرم ذات الحكم الذاتي من ضمن الجمهورية الأوكرانية. صحيح أن «غزو» القرم لم يكن بقوات من خارجها، بل اعتمد على الأسطول الروسي وعناصر قواته الموجودة في شبه الجزيرة بموجب معاهدة رسمية مع سلطات أوكرانيا، إلا أنه لا يختلف عن مثيله الأميركي لأفغانستان والعراق سوى في المحصلة التي ينتهي إليها كلاهما. وهي هنا تغيير السلطة في كابول وبغداد ثم الانسحاب، من دون إغفال ما للغزاة من مصالح في الغزو وما بعده، بينما يتم في القرم تغيير هوية وأرض وشعب وضم كيان مستقل ومعترف به دولياً إلى دولة أخرى... وإن جرت تغطية ذلك بقرار من حكومة القرم وبرلمانها، ثم باستفتاء شعبي حوله كما تقول موسكو في الفترة الحالية. المسألة هنا تتعلق بالقانون الدولي و»احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها»، وفق ميثاق الأمم المتحدة ونظام ما بعد الحرب اللذين حكما معظم النصف الثاني من القرن العشرين، وإن نظرياً على الأقل. من هنا صحة القول إن الأزمة الأوكرانية «لا مثيل لها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية»، واعتبار أنها ترقى إلى مستوى سقوط جدار برلين الذي أدى إلى تاريخ جديد، أو ما عُرِف بـ «نهاية التاريخ» (أميركا جديدة وروسيا جديدة وأوروبا جديدة وحلف أطلسي جديد) من جهة، وإلى علاقات قوى دولية مختلفة على مساحة العالم من جهة ثانية... وتالياً توقع ألا يكون ما بعدها ما كان قبلها على الصعد كافة. ولكن هل كان بوتين يدرك هذه الحقائق قبل أن يتخذ قراره «غزو» القرم وضمها إلى بلاده، وإن بالطريقة التي فعل بها ذلك، أي من دون إرسال قوات من خارجها لاجتياحها واحتلالها، ثم إعلان ضمها على مرأى العالم ومسمعه؟ غالب الظن أن بوتين كان يدرك ذلك جيداً. بل أكثر، فإنه، في حروبه لاستعادة دور «الدولة العظمى» (الاتحاد السوفياتي السابق)، أراد توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة والعالم بأنه مستعد لكل شيء من أجل تحقيق هدفه هذا. والأمر ليس جديداً أو مفاجئاً. فما يفعله بوتين في سورية منذ ثلاثة أعوام، ومع الصين وإيران وما يسمى «دول البريكس» تجاه قضايا أخرى، أفصح عن ذلك على مدى الفترة الماضية، وإن عمد إلى تغطيته بحملة انتقادات للولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات بسبب تدخلاتها في العالم. هل يريد الآن أن يقول إن هذه التدخلات تفسح له في المجال لكي يغتصب دولة أخرى ويضمها إلى دولته... ولكن من دون ارتكاب فعل «الغزو» الخارجي، كما يحاول أن يوحي للعالم وللأوكرانيين ولأهل القرم؟ وهل يستقيم مثل هذه المناورة في ظل نظام ما بعد الحرب الثانية وفي هذه المرحلة من القرن الحادي والعشرين؟ يبدو أنها لن تمر وكأن شيئاً لم يحدث. بل إن دولة مثل الصين، الحليفة لسياسات بوتين «العظمى» ومـــحاربته وحـــدانية القطب في العالم، لم تهضم ذلك كما تشـــي مواقفها حتى الآن. وفـــي مواجهة الدول السبع الكبرى (G7) ومنظمة التجارة العالمية، يرجح ألاّ يبقى ما يمكـــن وصفه بـ «دول البريكس». كذلك فالعالم الغربي يتجـــه إلى فرض عقوبات سياسية واقتصادية ومالية قاسية على روسيا بوتين، تعيد أجواء الحرب الباردة إلى ما كانت عليه طيلة نصف القرن العشرين تقريباً. ليس هذا فقط، فالغالب أن الحدث الأوكراني سيفتح مجدداً أبواب جورجيا (وغيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة) التي ظن بوتين أنها أقفلت نهائياً بعد عملياته السياسية- العسكرية فيها قبل سنوات. كما سيفتح باباً آخر(التتار في أوكرانيا، على طريقة إخوانهم المسلمين في الشيشان)، من دون إغفال دخول الاتحاد الأوروبي وقيم اقتصاد السوق، وربما حلف شمال الأطلسي في وقت لاحق، إلى حديقته الخلفية في أوكرانيا. هل من المبالغة القول إنها مرحلة مختلفة تماماً، مرحلة ما بعد الحدث الأوكراني، وإن المؤشرات إليها في أفق العلاقات والسياسات الدولية تبدو واضحة منذ الآن؟
مشاركة :