التبشير بالتحول الحثيث نحو اقتصاد المعرفة الحديث هو العنوان الأبرز لما تعالجه الطروحات والنقاشات المختلفة التي تتناول واقع الأعمال التجارية والسياسة في المملكة العربية السعودية، وما تجابهه من التحديات والفرص الثنائية الحالية، والمتمثلة في: انخفاض عائدات النفط، وتنامي ازدياد عدد السكان (وخاصة فئة الشباب). هذا لا يمكن إغفاله أبدا في ظل الجهود الكبيرة التي تبذلها المملكة العربية السعودية لتحقيق هذا التحول في شتى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، الذي يُشكل ملامح نهضة معرفية اقتصادية زاهرة. ولعل إطلالة سريعة على ما تبثه وتنشره مصادر المعلومات المختلفة، ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي تكفي لأن تؤكد لنا على أن الاستثمار في البنية التحتية يقرّبنا من العالم الآخر من حولنا، ويُسهل الوصول إلى الاستثمار في التقنية. لكنه لا يبني اقتصادا، ولا يصب مباشرة في مصلحة الاقتصاد الوطني. فبناء شبكات للمياه النظيفة، وتعبيد الشوارع والطرق، وإيصال الكهرباء إلى مختلف مدن المملكة، يعد من عناصر البنية التحتية. وهو يحرك الأسواق الداخلية، ويُشغل العمالة الوطنية، وتكون عوائده في نهاية المطاف مرتبطة بالاقتصاد الوطني. وهذا الاستثمار في البنية التحتية يُعد الطريق الأول للوصول إلى الاستثمار في المعرفة وتقنية المعلومات. ومن الصواب القول: إن فتح الأسواق السعودية للشركات الأجنبية للاستثمار في تقنية المعلومات، سوف يخدم المستهلك والصناعة، والاقتصاد الوطني، ولكنه في الوقت نفسه يحمل وجها سلبيا آخر، ألا وهو تحويل الأموال السعودية إلى الخارج. هنا ينبغي أن نكون حذرين عند تناولنا لموضوع الحديث عن التعامل مع التكنولوجيا والتقنيات الحديثة. فازدهار سوق هذه التكنولوجيا في العالم لا يعني ازدهارا أو تقدما للاقتصاد الوطني، علما بأنه يساهم في نمو هذا الاقتصاد إلى حدٍ ما، وتُقدم البيانات الإحصائية الموجودة حول هذا الموضوع بعض المؤشرات الإيجابية على ذلك. هذا كله – في نهاية المطاف-يعتمد بشكل أساسي على جيل جديد من السعوديين: يتمتع بالموهبة، وروح المبادرة، والثقافة، والتواصل مع العالم المتقدم، ليقود الاستثمار في هذا الإطار؛ إذ أن من أهم معطيات مجتمع المعرفة الاعتماد على المعرفة والكفاءة والمهارة. لقد سمحت التدفقات المالية من أرباح البترول بالاستقرار، في عالم يهمين عليه النمط الاستهلاكي، وفي ظل التنافس العالمي المحموم نحو الاقتصاد القائم على المعرفة. لكن هذا الاستقرار الذي ارتكز على ضخ الأموال في بنى تحتية جامدة، لم يجدِ نفعا في المؤسسات والقطاعات الحكومية التي تعتمد على الفكر. إن الاعتماد على نقل التكنولوجيا الأجنبية، والخبرات التقنية أسهما في الحد من تطور نظم الابداع والابتكار على الصعيد المحلي والوطني. إضافة إلى ضعف الموارد البشرية الموجودة التي فضّلت اللجوء إلى معالجة المعضلات، عوضا عن حلّها نهائيا. وعندما تُشارك الدولة ومؤسساتها مع القطاع الخاص (الذي يؤمن بالاستثمار في خلق منتجات خاصة مبنية على التطوير والهندسة)، في تبني استراتيجيات تتحرك نحو الدخول في سلسلة القيم العالمية، فإنه يتعين – في الوقت ذاته-تبني استراتيجيات أخرى تقدم الحلول على مراحل وخطط ذات مدى قصير وطويل، وبشكل متوازٍ ومتكامل، تقودها نحو توطين الحلول، وتصحيح التعليم المبني على الابتكار والإبداع. لذا فمن الواجب على السياسات والتشريعات المتصلة بالصناعة أن تتجنب الوقوع في فخ الوساطة الذي يهتم بتزويد السوق بالعمالة الفنية غير المدربة من الشباب، والتسويق المحلي لصالح البضائع العالمية فقط. بل عليها بدلا من ذلك، أن تتحرك باتجاه قيم خلّاقة، وحلول للمشكلات المتعلقة بالتقنية. ولا شك أن الاستراتيجيات المستدامة نحو بناء هذه القيم الخلاّقة، والقدرات التقنية والفنية الخاصة بالابتكار وغيره سوف تقودنا للاعتماد في نهاية الأمر على: القوى المحلية، والاندماج في سلسلة القيم العالمية. وهي تتطلب وجود إشراف من متخصصين يعملون على توطين هذه السلسلة محلياً. ويبقى السؤال الذي يعرض ذاته: هل الأمر يتعلق بالتشريع أم بالتنفيذ؟! الإشكالية تكمن هنا ليس في سوء الفهم الحاصل عند الكثيرين حول وجود نقص في القدرات والطاقات لدينا. بل تكمن في أننا نملك نموذجا فعّالا وصحيحا لكننا لا نستخدمه بالطريقة الصحيحة، ونفتقد القدرة على التركيز. استراتيجيتنا في التعامل مع ما نملكه من صناعات محلية ناقصة. هذا يقودنا إلى التفاؤل، والإشارة بأن المملكة تستثمر وبشكل دائم، وبميزانيات ضخمة في قطاعي: التعليم، والبحث العلمي. وهنا، على الجميع إدراك أن النمو الحاصل في حقل التعليم، وثقافة البحث العلمي في الجامعات السعودية قد هيآ آفاق البنية المعرفية التحتية، ورأس المال البشري للتحول القادم بالنسبة للمملكة العربية السعودية. وفي الوقت نفسه، يتبين لكل ذي بصيرة أن ربط هذه القدرات المحلية بسلسلة القيم العالمية سوف يساعد المواطنين على صياغة حلول عملية تكون أكثر ملائمة للظروف المحلية، وأقدر على تلبية احتياجات المجتمع المحلي. إن التقدم الاقتصادي السعودي سوف ينمو بالضرورة، وذلك كلما عملت الدولة على ربط قواعد معرفتها بنظم الإبداع والابتكار العالمي. فما تنتجه العقول البشرية، والقوى العاملة من حلول فكرية انطلاقا من فهمها للواقع خلال عملها في داخل الميادين المختلفة، تحتاج إلى جهود لتحويلها إلى منتجات، وتفعيلها، وتسويقها على العالم، مع الاستفادة من حقوق إنتاجها. وهذا لا يتأتى إلى بالارتباط –كما أسلفنا- مع مفاصل الإبداع والابتكار العالمي. ومما يذكر أن سلسلة القيم العالمية سوف توفر مدى أوسع للفرص المتاحة في السوق، إضافة إلى تبادل المعرفة، ونقل التكنولوجيا أو توطينها، والاستثمار فيها، وفي الخبرات التي يمكنها أن تحفّز أو تسرع حلّ مشكلات الإبداع والابتكار. وهذه هي أول حلقة تبدأها الدولة للدخول في سلسلة القيم العالمية. ويلاحظ أن الشركات الصناعية الخاصة والمؤسسات الحكومية الكبيرة لديهما الأدوات اللازمة لتعزيز الكفاءة الوطنية وتهيئتها من أجل طرح الإبداع، والابتكارات كمنتجات تجارية تتماشى مع الفرص المتاحة: محليا، وعالميا. ويتوجب على تلك الشركات أن تقف جنبا إلى جنب مع الدولة في هذا الإطار. ومن أهمّ ما يذكر هاهنا هو ما يلي: برامج البحث في الجامعات، وبرامج نقل التقنية، والشراكات العالمية، وحاضنات الأعمال، والصناديق المالية، والبنية التحتية المعرفية والمادية، ومنصات الاتصال، والتجارة التنافسية، والسياسات التنظيمية. ولا شك أن التحدي الأكثر صعوبة في هذا السياق هو – على صعيد استراتيجي انتظام هذه الأدوات في سياق معين من أجل بناء القدرات الوطنية؛ لتحقيق الأهداف المحددة في هذا المجال. وعندما ننظر إلى الأطروحات لهذه النماذج نجد أمامنا مؤسسات متخصصة في استراتيجيات: تحويل الابتكارات إلى سلع تجارية، وبناء الشركات الناشئة الابتكارية، نجحت في تحقيق هذه التوجهات الوطنية نحو الانتقال إلى مجتمع اقتصاد المعرفة، الأمر الذي يجعلنا على قدر هذا التحدي الراهن. إن مراكز التفكير المتخصصة في الصناعة والابتكار تقوم عادة بتطبيق نموذج ثلاثي حلزوني (ثلاثية الإبداع)، وذلك من أجل تطوير نظم الإبداع الوطني، عن طريق تطوير الاستراتيجيات الصناعية، وتوجيه أولويات الاستثمار، وصياغة سياسة ملائمة للابتكار والإبداع. والحق الذي لا مرية فيه في أنّ الطريق إلى اقتصاد المعرفة ذو القيمة العالية هو طريق معروف، إلا أّنه يتطلب استراتيجية دقيقة لتطويع الأدوات التي يمكنها أن تفتح الأفاق أمام المهندسين ورواد الأعمال، والمدراء التنفيذيين، والمستثمرين، وأمام طبقة جديدة من المتعلمين ذوي البصيرة والقادرين على السفر، ومن خلال احتكاكهم بالعالم عبر التنقل بين الدول المختلفة فإنهم سوف يقودون مستقبل المملكة العربية السعودية إلى القمة. ولذا نشأت شركات متخصصة تتوجه نحو اقتصاديات المعرفة، وتعمل على بناء الاستراتيجية القائمة على تحويل الابتكار إلى تجارة رائجة مفيدة للمجتمع، تقوده نحو آفاق رحبة. ولعل مثل هذه الأفكار والأطروحات في هذا المقال وغيره ستلقي الضوء على الكيفية التي تعمل بها استراتيجية التفكير في إيجاد جيل جديد من الشباب السعودي الموهوب الذي سوف يقود التحول المطلوب باتجاه اقتصاد المعرفة العالمي.
مشاركة :