الشيخ صلاح الجودر: مفهوم الوسطية الحقيقي التمسك بجميع تعاليم الشريعة

  • 10/22/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قال الشيخ صلاح الجودر في خطبة الجمعة بجامع قلالي: لقد خلق الله البشر وأورثهم الأرض ليعبدوه ويوحدوه، فأنزل عليهم كتبا، وأرسل إليهم رسلا، وشرع لهم شرائع تناسِب أحوالهم وما هم عليه، كما ذكر تعالى عن اليهود: «فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا» [النساء: 160]. ثم إن الله تعالى ختم الشرائع بشريعة الإسلام التي جاء بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فنسخت ما كان قبلها من الشرائع، وجعلها الله خاتمة الأديان، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا» [المائدة: 3]. إن من أبرز سمات الشريعة المحمدية الوسطية والاعتدال؛ فقد بُنيت على جلب المصالح ودرء المفاسد «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» [الحج: 78]، والتيسير ودفع المشقة «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ» [البقرة: 185]، فمن شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جاء بالتيسير والسماحة وهي الحنيفية السمحة، وكما قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعَا ولا تختلِفا» [البخاري ومسلم]. من هذه المبادِئ وغيرها صارت هذه الأمة وسطا، «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» [البقرة: 143]، قال القرطبي رحمه الله وغيره: (أي: عدولا خيارا، والوسَطُ هو الخِيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرُها وأفضلها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا). يتساءل كثير من الناس لماذا الحديث هذه الأيام عن الوسطية والاعتدال والتسامح؟ في السنوات الأخيرة شهدت هذه الأمة فتنا ومحنا تبناها أبناء هذه الأمة حين وافقت أهواءهم وهي ما يعرف بالربيع العربي أو الشرق الأوسط الجديد، فزلت بهم أقدام، ولاكتها ألسن، وكتبتها أقلام، فكانت تبعاتها اختلالا في المفاهيم، واضطرابا في التفكير، لذا كان لزاما على أهل العلم أن يبينوا ويرشدوا وينصحوا، وأن يعلم الناس مقاصد الشريعة الغراء كما أرادها الله تعالى لا كما يريدها البشر! فهناك-مع الأسف- من يريد أن يجر الأمة إلى التغريب أو يدفعها إلى التخريب، سواء عن طريق الطعن في الأسس والثوابت، أو التطاول على ولاة الأمر وعلماء الدين، أو افتعال الصدام بين أبناء الأمة الواحدة، فسُفِكت دماء، وأُتلفت ممتلكات، وقُتل مستأمنون، وروع آمنون، ما جر على هذه الأمة ويلات ونكبات. كم فئة في هذه الأمة اليوم ترفع صوتها (إنما نحن مصلحون) وهم في حقيقتهم مفسدون مخربون، مجرمون حاقدون، فهناك من يسعى لتكفير المسلمين، وفريق آخر يريد من المسلمين أن يكفروا، إن مقاصد الشريعة وحدودها لم توضع على مقتضى آراء الأفراد، بل هي من عليم خبير، الذي هو أعلمُ بمن خلق وهو اللطيف الخبير، قال تعالى: «وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون: 71]. إنَّ مفهومَ الوسطية الحقيقية هو التمسك بجميع تعاليم الشريعة السمحة بذاتها، لأن الإسلام بتعاليمه وشريعته يمثل الوسطية الحقيقية في العقيدة، قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» [آل عمران: 64]، والوسطية في العبادة أن يُعبد الله وحده لا شريك له، وألا يُعبد الله إلا بما شرعه من طريق رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا هو الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعةُ، وقد كان النبيُ -صلى الله عليه وسلم- يحثُ على القصد في الأمور فقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: (أفتَّان أنت يا معاذ؟!) [النسائي وأحمد]. جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ)، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا»، واعلموا -رحمكم الله- أن من وسطية الإسلام محاربة الغلو والتشدد في الدين، قال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ» [المائدة: 77]، وقال -صلى الله عليه وسلم- محذرا أمته: (وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ) أي: من الأمم السابقة كاليهود والنصارى. والوسطية والاعتدال يستلزمان صورا من التسامح والتعايش المجتمعي، فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أيسرُ الدين الحنيفيةُ السمحة) [البخاري وأحمد]، فهذه الشريعة مِن خُلقِها السماحةُ، فهي تدعو المسلم أن يكون سمحا في تعامله مع الناس، قال تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ, وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» [فصلت: 34-35]، فإذا تخلق المسلم بالسماحة يسر الله أمره وبارك له في أحواله كلها. إن أبناء هذا الوطن عرف عنهم الوسطية والاعتدال وحبهم ثقافة التسامح والتعايش، والمتأمل في المكون البحريني يرى فيه كل الديانات والمذاهب والثقافات، يمارس فيه الجميع عباداته وشعائره بكل حرية، وهذا من فضل الله تعالى ثم بفضل القيادة السياسية والدينية المؤمنة بهذه الثقافة والخصوصية. ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، واستذكروا قول المولى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103].

مشاركة :