عن إشكالية الثقافة والاختراق الثقافي - د. عبدالحق عزوزي

  • 10/22/2016
  • 00:00
  • 26
  • 0
  • 0
news-picture

أجادت الأستاذة المقتدرة رحمة بورقية في مؤتمر كنا قد شاركنا فيه مع عدد من الخبراء وبتنظيم من أكاديمية المملكة المغربية في موضوع: «الثقافة المغربية ورهانات التنمية « في الإحاطة بجوانب إشكالية الثقافة، عندما أشارت إلى أن كلاً من فرانس بواس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وروث بندكت ساهما في تعميق فكرة نسبية الثقافة وذلك عبر صياغة مفهوم «الفضاءات الثقافية» ومفهوم «النموذج الثقافي» وذلك لإبراز الخصوصيات الثقافية ككيانات بحدود واضحة تُشكِّل نماذج خاصة. وإذا كانت نسبية الثقافات وتحليل خصوصياتها يبعداننا عن فهمها انطلاقاً من نموذج معين، فإن القول بالنموذج الثقافي أو بالفضاءات الثقافية، رغم كونه يسلط الضوء على خصوصية ثقافة ما، فإنه يصعب مع ذلك ضبط رسم حدود ثابتة لكل ثقافة، نظراً لليونة تلك الحدود وتداخل الثقافات وتنوع مكوناتها. فحتى التثاقف الذي يقوم على مبدأ استعارة عنصر ثقافي من ثقافة أخرى لا يعبّر عن الكيفية التي يدمج بها عنصر ثقافي من ثقاقة إلى ثقافة أخرى. والواقع أن كل استعارة لعنصر ثقافي إلا ويُعاد بناؤه داخل كيان ثقافي جديد يتم تملُّكه من طرف الحاملين للثقافة التي أدخل إليها، بحيث يقوم البناء الثقافي على إعادة البناء والتملُّك ليضحى جزءاً من إطاره الثقافي الجديد. ثم إننا على نهج العلاّمة المغربي محمد الكتاني عندما نعتبر التاريخ بصفة عامّة هو مرجع الفهم لروح الثقافة التي أنتجها تاريخ أيّ أمّة أو شعب فإنّما نتجاوز الدلالة الاصطلاحية للتاريخ، أي الوقائع والأحداث المتعاقبة والمترابطة التي تطفو على سطح التاريخ، ولا نستحضر أساساً إلا ما يعدّ سبباً لتلك الأحداث، وهو الأفكار والقيم المحرّكة للسيرورة التاريخية. وفي هذا السياق توقفنا المقارنة بين الثقافات والحضارات غالباً على وجود توافقات فيما بينها، بل والكشف عن مظاهر تأثير بعضها في البعض أو تأثُرها، وهو ما يعبّر عنه بالمثاقفة. إذ لا توجد ثقافة لم تتأثر عبر تاريخها بغيرها. لذلك فإنّناّ نلاحظ أنّ في كلّ ثقافة قدراً من معطيات التجارب العقلية، المتعلّقة بالفلسفات وبالعلوم، كما أنّ فيها قدراً من معطيات التجارب الوِجدانية والنزوعات الذاتية، والمعتقدات الدينية. ولمّا كانت التجارب العقلية تكتسي في الغالب طابعاً موضوعياً فإنّها تُعدّ مصدر توافق والتقاء بين شتّى الثقافات المختلفة، كالثقافة الإسلامية التي التقت بالثقافة اليونانية وبالثقافة الفارسية في حقبة من التاريخ، وتأثّرت بهما في موضوعات العلم والفلسفة والنظم الإدارية. كما أثّرت هذه الثقافة بدورها في الثقافة الأوروبية في بداية عصر النهضة في نفس المجالات. وفي ضوء هذا المُعطى التاريخي يمكن اعتبار الخصوصية الثقافية الوطنية بالنسبة للعديد من الدول راجعة إلى ما هو وِجدانيّ وذاتيّ واعتقاديّ ولغويّ. وقد تمخّض تاريخ دول المغرب العربي مثلاً عن ثقافات كانت ثمرة تفاعل متعدّد الأطراف والأجناس والمكوِّنات، ولكن المستعمر حاول بكل ما يملك تقويضها وطمس معالمها واغتصاب أبجدياتها زرعاً للفتن، ومسحاً للشخصية الثقافية واللغوية وفرضاً للتبعية عليها ليس لغوياً فقط وإنما سياسياً واقتصادياً وفي مجال تكوين النخب، «والشواهد على ذلك اليوم وافرة، يكفي أن لسان فرنسا ما زال حتى الآن، لسان الإدارة في هذه البلدان، ولسان التعليم فيها من الطفولة حتى الكهولة، والرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي» ولعل دولاً مثل المغرب أكثر من جيرانها قامت بالتأصيل لقوانين سامية تسمح بحماية الثوابت اللغوية والثقافية دون إغفال قواعد الانفتاح على العالم، ودون أن يمنع ذلك من نشوب بعض من النقاشات الحادة، ولولا النضج السياسي داخل المجال السياسي العام، لانحرفت إلى مسارات إيديولوجية إقصائية. ونعرف أن دولاً مثل المغرب والجزائر وتونس تأذت وعانت من الحماية (تونس والمغرب) والاستعمار الفرنسي (الجزائر) والإسباني. وأياً كانت التحاليل التي تتحدث عن العوامل والقابليات الداخلية في التمكين لعمليات الاختراق والتفكيك الخارجي الذي طبخته السياسات الاستعمارية عقب الحرب العالمية الأولى، فلا مناص من الإجماع على الدور الخارجي في إنجاز التقسيم والتجزئة وويلاتها المتعددة بما في ذلك الاختراق الثقافي. وأصل هذا التفسير مرده طبعاً إلى الهشاشة الداخلية للبنى الاجتماعية، وضعف النسيج الاندماجي في هياكلها. إنّ الثقافة المغاربية ما زالت تعيش اليوم مَخاض التجاذب بين عدة خيارات متقابلة، وداخل ثنائيات متنازعة، تجعل منها في بعض الأحيان ثقافات تلفيقية، عديمة الوحدة والتناسق، عاجزة عن الحسم في الانتماء لعصرها، متردّدة بين تنازع القيم. هذه الثنائيات التي سمّاها البعض (ازدواجية) حين قال: المشكل الذي يواجهنا وتعانيه ثقافتنا هو مشكل الازدواجية التي تطبع كلّ مرافق حياتنا المادية والفكرية، لا، بل المشكلة في الحقيقة هي ازدواجية موقفنا من هذه الازدواجية نفسها.

مشاركة :