تحظى منشأة معمارية قديمة تقع شمال غربي منطقة تبوك، والتي اعتبرت واحدة من المواقع الآثرية القديمة في السعودية، باهتمام علمي واسع من الباحثين في قسم الآثار في جامعة «يورك» البريطانية، وذلك بعد اكتشاف تاريخها الذي يعود إلى العصر الحجري الحديث، أي قبل 8 آلاف سنة قبل الميلاد، وفقاً لنتائج التحاليل المخبرية بتقنية «Beta Analy lnc» في ولاية فلوريدا الأميركية. وأكد عالم الآثار السعودي البروفيسور عبد الرحمن الطيب الأنصاري، وفق ما نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس)، أن المملكة تُزخر بمواقع أثرية فريدة من نوعها وتعود إلى عصور مختلفة تبدأ من عصور ما قبل التاريخ مروراً في الممالك العربية قبل الإسلام ثم العصر الإسلامي في فتراته، وأجلّ هذه المواقع هي الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة، والأماكن التي شهدت ظهور الإسلام وامتداداته المتنوعة، إضافة لتنوع في البيئات الطبيعية المختلفة. وجاء اكتشاف هذه المنشأة المعمارية على يد المبتعث من جامعة الملك سعود لدراسة الدكتوراه في قسم الآثار في جامعة «يورك» خالد الأسمري، الذي يُحضّر رسالته العلمية في اكتشافه الأثري للمنشأة الواقعة بالقرب من قرية العيينة الأثرية، والتي تبعد عن مدينة تبوك 80 كيلومتراً أي بالاتجاه الشمالي الغربي، وتحمل الرقم الأثري 200 – 104. وأفاد البروفيسور من جامعة «يورك» الذي يعد من أبرز الباحثين في مجال الآثار في أوروبا والجزيرة العربية والمشرف على رسالة الأسمري أن أبعاد مساحة المنشأة المعمارية تقدر بـ 900 متر في 100 متر، وهي من المواقع الآثارية النادرة في العالم والتي يُثار حولها الكثير من التساؤلات العلميّة. من جانبه، وصف خالد الأسمري المنشأة المعمارية بأنها عبارة عن تل أثري يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار، ويتكون من مساكن شُيدت قبل ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد بأشكال منتظمة وغرف متلاصقة بواسطة الحجر من دون مونة في بناء الجدران المستقيمة، وهي تقنية تثمل نقلة حضارية كبيرة من الشكل الدائري إلى المستطيل أو المربع. وبيّن الأسمري أن عمليات التنقيب في الموقع أظهرت تعرّضت المساكن إلى تعديلات وإضافات في الوحدات السكنية، ما يدل من الناحية العلمية على وجود مرحلتين معماريتين مرت بها هذه المنشأة. وأوضح أن الأدوات الحجرية المكتشفة لا تعكس اختلافات جوهرية في تقنياتها أو أنواعها بدرجة توحي بطول المدة التي عاشها السكان في المنشأة المكتشفة، مفيداً أن تقدير عدد السكان ومدة الإقامة في المنشأة المعمارية يمكن الوصول لهما في القيام بالمزيد من عمليات التنقيب الأفقية في الموقع والحصول على المزيد من المادة الأثرية وتواريخ كربون (C14) لزيادة احتمالات وضع تسلسل حضاري موّثق. وأشار إلى أن نتائج دراسته لهذه المنشأة في مرحلة الماجستير مشجعة ومهمة لمسيرة البحث التي يواصلها الآن في الجامعة البريطانية، نسبة لنوعية المواد المكتشفة وما يمكن أن تلقيه من ضوء على التاريخ الحضاري لشمال غربي المملكة في فترة العصر الحجري الحديث. وأكد أن إكمال دراسة هذه المنشأة في «يورك» البريطانية يُكسبها تميزاً علمياً كبيراً لأن الجامعة معروفة عالمياً باهتمامها في مجال وقسم الأثار، إذ تعتبر من أفضل 10 أقسام على مستوى المملكة المتحدة، ويتيح القسم لطلاب الدراسات العليا استخدام التقنيات الحديثة من مختبرات وأجهزه تحليل مواد أثرية متقدمة تسهم التعمق في مجال المنشأة المعمارية، وتأريخ المواد العضوية المكتشفة فيها فضلاً عن مواصلة البحث في الموقع للعثور على المزيد من الاكتشافات التاريخية. وكشفت دراسات آثار ما قبل التاريخ في المملكة أن الإنسان الأول استقر في الجزيرة العربية على نطاق واسع، إذ أظهرت الدلائل على وجود منشآت تعود إلى العصر الحجري القديم في الجزيرة العربية بنحو 200 ألف سنة قبل الميلاد، إضافة إلى العصر الحجري الحديث بنحو 10 آلاف سنة قبل الميلاد. وفي ذلك السياق شدّد الباحث الأسمري على أن مشروع دراسته يكتسب أهميته من إمكان طرح إجابات لكثير من الأسئلة والجوانب التي ما يزال العالم لايعرف عنها الكثير بما يتعلق في طبيعة أنماط الاستيطان والاقتصاد المعيشي والتكيف البيئي الذي كان سائداً في الحقب الزمنية الممتدة من نحو سبعة آلاف إلى ألفين قبل الميلاد. ويعد العصر الحجري الحديث من أهم المراحل التي مر بها الإنسان في التطور المستمر في تخطيط مسكنه وبنائه، المتمثل في ابتداء التقسيمات الداخلية للمساكن الدائرية بجدران مستقيمة ومن ثم الانتقال إلى تشييد المساكن المستطيلة والمربعة تزامناً مع المساكن الدائرية. ووجد في المنشأة المعمارية المكتشفة أن سمك الجدران يراوح بين 30 إلى 50 سنتيمتراً في صفين من الحجر، أما الجدران التي بنيت بشكل صف واحد فكان سمكها من 30 إلى 40 سنتيمتراً. وعُثر في المنشأة على كميات كبيرة من الأدوات الحجرية ذات الترقيق المتموج، والأنصال، والأطراف المدببة، والأشكال الهلالية، علاوة على بقايا مجارش، ومدقات، ورؤوس سهام، ومواد عضوية مثل: عظام الطيور. واوضحت الدراسات أن الجزيرة العربية عامة والسعودية خصوصاً شهدت اتصالاً حضارياً قديماً في الأقاليم المجاورة، لكن تاريخ البحث الآثاري لحقبة ما قبل التاريخ لم يكن بالشكل الكافِ، وذلك بسبب التنوع الجغرافي والجيولوجي الذي تتصف به المملكة، ما صعب على الباحثين الوصول للأماكن الأثرية بسهولة. من جهتها، قامت إدارة جامعة الملك عبد العزيز بإصدار كتاب عن هذا المشروع الأثري ضمن سلسلة إصدارتها للرسائل الجامعية بعنوان «موقع العيينة الأثري - دراسة للعصر الحجري في شمال غربي المملكة»، والذي ضم تفاصيل عدة عن هذا الاكتشاف مدعوماً بالوثائق والصور، وذلك في إطار توثيق هذا الاكتشاف الأثري وكل ما يخص التاريخ القديم في السعودية.
مشاركة :