رهانات على تيار بلا رهانات سعيد ناشيد بمعزل عن أوهام نظرية المؤامرة التي تعطل العقول وتبعث الخمول، لا ننكر بأنّ الغرب الرّأسمالي قد استغلّ ورقة “الجهاد الإسلامي” استغـلالا فعّـالا لم يكـن ليكتمـه ولا ليخفيـه. فقد كـان الرهان واضحا صريحا. وهذا ما لا ينطبق على نظريات المؤامرات. بدأت حكاية الاستغلال منذ سنوات السبعين من القرن الماضي، إبّان الحرب على ما كان يسمى بالاتحـاد السوفييتي. وقـد كـان الظنّ وقتها بأنّ الحرب ستستغرق عقودا طويلة من الزّمن، وتتطلب الاستعانة بسلاح الدين، وبالحركات الدينية، وحتى بالحركات الجهادية، وهو سلاح فتاك مدمر، يصعب التخلص منه عند انتهاء المعركة، وقد يرتدّ السلاح إلى نحر داعميه، غير أن المسألة قد لا تكون ملحّة طالما الحرب ستستغرق أمدا طويلا، وقد تستمرّ لألفيّة كاملة من “أهوال الأرمجيدون” كما توقع اليمين المسيحي. هكذا وقع الرهان على استغلال الحركات الدينية الجهادية في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى رأسها الحركات الجهادية في القوقاز والبلقان والشـرق الأوسـط. وليس في ذلك ما يدل على أن الغرب الرّأسمالي هو صانع الجهاد وخالقه، كما يزعم البعض، بل كل ما في الأمر أن هناك تقاطعا مكثفا في الحسابات المتضاربة. ولا بأس من التـذكير بأن أسامـة بن لادن ليس هو الذي انقلب فجـأة على الإدارة الأميـركية بعد تعاون مذهل بينهما، وإنما كانت الحسابات متضاربة منذ الوهلة الأولى، وإن تقاطعت في لحظة من اللحظات، فكان طبيعيا أن ينفلت المارد يوما من الوعاء الذي لا يناسب أضغاث أحلامه. وهي نفس الحكاية التي تكررت مع العديد من الأجهزة الأمنية التي حاولت توظيف خلايا التطرف الجهادي في إطار لعبة قذرة. استفاد الإسلام السياسي من أجواء الحرب الباردة، ووفر للمعسكر الرأسمالي زادا قويا من الردود الإسلامية على الشيوعيين والماركسيين والاشتراكيين. بل ذهب أبعد من ذلك، فاعتبر أن دعم الجهاد الأفغـاني “الإسـلامي” أَوْلى مـن دعـم المقـاومـة الفلسطينية “العلمانية” في تلك السنـوات. وهـو المآل الـذي خفـف الضغط عـن الأنظمـة المنهكـة عقب هـزيمـة العـام 1967، ووجه غضب الشعـوب إلى جهة “الإلحاد الشيوعي”. وبهذا المعنى كان ثمة تقاطع واضح وصريح في الحسابات والرهانات: مؤمنون ضد الإلحاد، ورأسماليون ضد الشيـوعية، وأنظمة توجّه غرائز الجهاد بعيدا نحو أفغانستان. هكـذا هي المسـألة. أما الاعتقاد بوجود قوة سياسية كونية تتحكم في كـل شيء، وتصنع ما تشـاء، وكيفما تشاء، فإنه ليس أكثر من تعبير لاشعوري عن بقايا النظرة السحرية إلى العالم، حيث الأيادي الخفية تتحكم في مصائر البشر. في نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعي، لم يكن سهلا، ولا ممكنا، التخلص من الإسلام السياسي باعتباره ذخيرة منتهية الصلاحية. فطُرِحت مسألة إعادة التدوير لأجل استعمالات أكثر “إيجابية”. وهنا برزت رهانات عديدة متعددة، نذكر منها ثلاثة: أوّلا، الرهان الليبرالي: قد يكون الإسلام السياسي غطاء مقبولا لتمرير البعض من مقتضيات الحداثة إلى داخل المجتمعات الإسلامية، حيث ساد الاعتقاد بأن الأفكار الحداثية التي ترفضها الشعوب الإسلامية قد تغدو مقبولة إذا ما تمّ تغليفها بغلاف ديني. وإذا كان الأمر كذلك، فربما ينجح الإسلام السياسي في تمرير البعض من مقتضيات الحداثة بنحو أكثر سلاسة مما قد تفعله القوى اليسارية والليبرالية والتقدمية. نذكر هنا علاقة الإدارة البريطانية بيوسف القرضاوي وطارق رمضان إبّان فترة طوني بلير. ثانيا، الرهان اليساري: قد يكون الإسلام السياسي حليفا ثوريا في المعركة ضدّ الإمبريالية. وهذا هو رهان البعض من القوى اليسارية الغربية المناهضة للعولمة الرأسمالية، والتي حاولت، بدرجات متفاوتة، استقطاب الإسلام السياسي ليغدو حليفا في المعركة ضدّ العولمة الرّأسمالية. نذكر هنا علاقة حركة “العولمة البديلة” في فترة ازدهارها، بين 2001 و2006، بالسيد طارق رمضان. ثالثا، الرهان الديمقراطي: قد يكون الإسلام السياسي شريكا في بناء الديمقراطية. هكذا كان رهان المحافظين الجدد في فترة ولاية جورج بوش الابـن، وهم الذين يستندون إلى تصور نظري يزعم بأنّ العلمانية القائمة على نسبية القيم لا تمثل ضمانة قوية لدوام الديمقراطية؛ فالحرية في نظرهم لا تتجذر إلا إذا جعلها الإنسان ضمن مكونات عقيدته الدينية، حتى ولو قامت على أساس طائفي. ومعلوم أن المحافظين الجدد -وهم حلفاء إسرائيل- قد قاتلوا منذ الوهلة الأولى لأجل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ولا بأس أن نذكر بالمناسبة ذلك الدعم المطلق الذي حظي به رجب طيب أردوغان من طرف المحافظين الجدد، على أمل أن يربط الرجل صيرورة الأسلمة بصيرورة الدمقرطة. عقب الحادي عشر من سبتمبر 2001، راهن البعض على أن يكون الإسلام السياسي “الوسطي” قادرا على احتواء وتطويع الإسلام السياسي “الجهادي” وسحب البساط من تحت أقدامه. في هذا السياق أنيطت بقطر وتركيا مهمة العمل على “تهذيب” الإسلام السياسي لكي يصبح أداة فعالة للمصالحة الصعبة بين الإسلام والحضارة المعاصرة. وبصرف النظر عن انعدام الديمقراطية في قطر، فإن قناة الجزيرة التي ساهم في تأسيسها وتمويلها بادئ الأمر أخوان يهوديان فرنسيان من أنصار السلام (ديفيد وجان فريدمان)، استطاعت أن تقدم وجها “مقبولا” لإمارة تتبنى رسميا المذهب الوهابي لكن في نسخة قد تساهم في “تهذيب” المذهب و”ترويض” الحركات الجهادية. أما عن تركيا فقد نجح إسلاميو ما بعد نجم الدين أربكان في تسويق صورة إسلام حداثي يوحي بأنه قادر على تحقيق المصالحة بين الإسلام والديمقراطية. بعيدا عن أوهام نظرية المؤامرة فقد كان ذلك الرهان رهانا كبيرا ومغريا كذلك. غير أنّ المحصلة في الأخير هي أنّ مآلات ما سمي بالرّبيع العربي قد عصفت بجميع الأوراق على حين غرّة، وظهر جليا أن الرهان على احتواء التطرّف الديني من داخل منظومة الإسلام السياسي لم يكن رهانا موفقا. فبدل أن يُفلح الإسلام السياسي “الوسطي” في احتواء الإسلام السياسي “الجهادي”، جرى العكس تماما، إذ أن الإسلام السياسي “الجهادي” هو الذي تغوّل في الأخير وابتلع كافة فصائل الإسلام السياسي الأخرى. هذا ما حدث في مصر، وحدث في ليبيا أيضا، وكذلك في سوريا واليمن، إلخ. الرهان على الإسلام السياسي “الوسطي” رهان على تيار لا رهان له عدا السجال والنزال والردّ على مشاريع الآخرين. ولأن الإسلام السياسي “الجهادي” لا يدخل ضمن مشاريع الآخرين، فإن الرهان على الإسلام السياسي “الوسطي” كان رهانا على الفرس الخاسرة. هذا ما يدركه العالم في معظمه اليوم، بفعل قوة الأشياء، لكن في غياب بدائل جاهزة ناجزة، قد يفضل البعض أن يكون نزوله عن الفرس الخاسرة بطيئا، أملا في نزول آمن. وهذا كل ما في الأمر. كاتب مغربي سراب/12 شارك هذا الموضوع: Tweet RSSطباعةالبريد الإلكتروني معجب بهذه: إعجاب تحميل...
مشاركة :