يبدو أن حركة «فتح»، بقيادة محمود عباس (زعيم «فتح» ورئيس المنظمة والسلطة)، حسمت أمرها أخيراً باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، حيث أنها تنوي عقد مؤتمرها العام السابع أواخر الشهر المقبل، على أن يليه عقد جلسة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، بعد تأجيلات متعددة لهذين الاستحقاقين، من دون تعليل ذلك بأسباب واجبة. وفي الواقع، فإن الساحة الفلسطينية تعاني من فراغ كبير في القيادة والسياسة والخيارات، مع ضعف المركز القيادي للحركة الرئيسة «فتح»، سواء في أوساط المنتسبين الى هذه الحركة الكبيرة والمتعاطفين معها، أو بالنسبة الى مكانتها إزاء الفصائل الأخرى، مع الانقسام الحاصل في الكيان الفلسطيني، وهيمنة حركة «حماس» على غزة، وحال الترهل في بنى الفصائل، التي تآكلت مكانتها في مجتمعها وأفل دورها في العملية الوطنية. أيضاً، تكمن مشكلة حركة «فتح»، التي طبعت الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعها منذ أواخر الستينات، في تحوّلها إلى حزب للسلطة، وفي إخفاق الخيارات التي انتهجتها في المفاوضة والتسوية، وضمنه انسداد أفق اتفاق أوسلو (1993). ويحتسب ضمن ذلك افتقادها المبادرة، وضعف قدرتها على تجديد حيوية بناها وأفكارها، وتحوّل مؤتمراتها إلى مناسبة احتفائية أو مجرد تظاهرة خطابية وانتخابية، لخلوّها من أية مراجعة نقدية للتجربة الماضية، وحجبها الأسئلة الواجب طرحها في إطارات كهذه، من نوع: أين كنا وأين صرنا؟ أو أين أخطأنا وأين أصبنا؟ لماذا وكيف وما العمل؟ طوال أكثر من نصف قرن، عقدت هذه الحركة ستة مؤتمرات لها، الأول والتأسيسي قبل الانطلاقة أي في مطلع الستينات، والثاني (1968)، والثالث (1971) بعد الخروج من الأردن، والرابع (1980)، والخامس بعد انتهاء العمل المسلح في الخارج (تونس 1988)، والسادس (بيت لحم 2009) وهو الوحيد الذي عقد في الداخل وبعد اتفاق أوسلو، وبعد رحيل زعيم الحركة ومهندسها ياسر عرفات. لنلاحظ هنا، أن الفترة الزمنية بين المؤتمرين الرابع والخامس كانت ثماني سنوات، على رغم أن تحولاً كبيراً حدث وقتها في وضع «فتح» والمنظمة والفصائل، وفي واقع الكفاح المسلح الفلسطيني. أما الفترة بين المؤتمرين الخامس والسادس، فكانت عقدين قامت خلالهما قيادة هذه الحركة بعقد اتفاق أوسلو (1993)، وحولت الحركة إلى سلطة، من دون أن تشرعن ذلك في أي مؤتمر لها. وخلال تلك الفترة أيضاً، حاولت «فتح» التمرد على اتفاق أوسلو عبر الانتفاضة الثانية المسلحة (2000 - 2004)، ما أدى إلى إعادة إسرائيل احتلال المدن الفلسطينية وفرض الحصار على القيادة الفلسطينية، وتنصيب محمود عباس كقائد جديد لهذه الحركة وكرئيس للمنظمة والسلطة، بعد رحيل أبو عمار في المستشفى الباريسي. هذا العرض يبيّن مدى الخلل الناجم عن الفراغ في هذه الحركة، ويكشف تخلخل حياتها الداخلية، وهشاشة التواصل بين الأجيال فيها، وعدم تجديدها أفكارها، وتخشّب طبقتها القيادية. كما يفيد ذلك بمرور سبعة أعوام على انعقاد المؤتمر الفتحاوي السابق، الذي لم يستطع تغيير شيء في واقع «فتح»، ما يؤكد ما ذهبنا إليه، في اعتبار قيادة «فتح» أن المؤتمر هو مجرد محطة استعراضية وكلامية وانتخابية، ومناسبة لتجديد شرعيتها، إذ إن وضع هذه الحركة لم يتحسن على أي صعيد، لا على صعيد صورتها عند شعبها، ولا على صعيد تعزيز دورها في مواجهة السياسات الإسرائيلية، ولا على صعيد تطوير حياتها الداخلية، مع استشراء القيادة الفردية في وضع بات فيه الرئيس محمود عباس المتحكم بالقرارات في الحركة والسلطة والمنظمة، وهي الحال ذاتها التي كان انتقد علناً على أساسها الرئيس الراحل ياسر عرفات إبان مرحلة الانتفاضة الثانية. ما أقصده أن عقد مؤتمر لحركة مثل «فتح»، يفترض أن يأتي في خضم ورشة وطنية شاملة، تتناسب مع مكانتها ودورها وتاريخها في كفاح شعبها، لأن توجهاتها وخياراتها يتحمّل تبعاتها الشعب الفلسطيني كله، لا المنتسبون إليها فقط. فضلاً عن ذلك، فإن طرح تجربة هذه الحركة ومشروع البرنامج السياسي للمؤتمر، والخيارات السياسية المقترحة، للنقاش العلني العام، للنقد والمساءلة والتطوير، هو أمر طبيعي وضروري ويغني هذه الحركة ويعزز مكانتها ويرشد سياساتها، هذا إذا كانت هذه الحركة حريصة على صدقيتها وعلى ديمومة مكانتها كحركة وطنية للشعب الفلسطيني. هذا ينطبق على الدعوة الى عقد المجلس الوطني الفلسطيني أيضاً، فمن المعروف أن ثمة مشكلة في عضوية هذا المجلس، أي في شرعية أعضائه المعينين منذ زمن بعيد، ومشكلة ناجمة عن أن نسبة كبيرة من أعضائه باتوا في الثمانينات من العمر، ولم يعد لديهم منذ زمن ما يقدمونه أو ما يضيفونه الى العمل الوطني الفلسطيني، مع التقدير لتاريخهم. الجدير ذكره هنا، أن المجلس الوطني الفلسطيني، وهو الهيئة التشريعية لمنظمة التحرير، وهي المرجعية العليا المفترضة للسلطة والفصائل، عقد إحدى وعشرين دورة له منذ تأسيسه، الأولى (1964) والحادية والعشرون (1996)، علماً أن الدورة الأخيرة هي الدورة الوحيدة التي عقدت في الداخل (غزة)، وتم عقدها استجابة للضغوط الأميركية والإسرائيلية المتعلقة بتغيير مواد في الميثاق الوطني الفلسطيني. ويستنتج من ذلك، أن هذه الدورة عقدت بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية بثلاثة أعوام، أي أن الاتفاق المذكور لم يقر أصلاً في اجتماع للمجلس الوطني، وأنه بعد هذه الدورة لم يعقد المجلس الوطني أي اجتماع له على رغم مرور عقدين من الزمن. في حين أن القيادة الفلسطينية تحايلت على هذا الوضع بعقد اجتماعات طارئة للمجلس الوطني فقط، لترميم النقص في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وتعيين ممثلي الفصائل فيها (كما حصل في 2009). طبعاً، لا يتوقف الأمر عند ذلك، إذ إن منظمة التحرير التي يفترض أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والمعبر عنه وعن قضيته، والمرجعية العليا للسلطة والفصائل، باتت هي ذاتها مجرد ملحق بالسلطة، وتعاني من التهميش والتغييب، وحتى أنه لا يتم استحضارها إلا لتغطية أو لتمرير قرارات رئيس السلطة، وإضفاء الشرعية عليها، وحتى أن قرارات المجلس المركزي الفلسطيني، الذي يعقد بين فترة وأخرى لغايات وظيفية معينة، لا يتم الأخذ بها. الفراغ القيادي والشرعي يشمل كيان السلطة أيضاً، فإضافة إلى واقع الانقسام بين سلطتي الضفة وغزة، ثمة مؤسسة الرئاسة التي لم يتم التجديد لها منذ عام 2005، أي منذ أكثر من عشرة أعوام، وهذا يشمل انتهاء شرعية «المجلس التشريعي»، الذي يعاني من الشلل أو من التغييب. اللافت، أنه في كل هذه الكيانات («فتح» والمنظمة والسلطة) لا يوجد نائب لمحمود عباس، وكل الضغوط والمطالبات في هذا الاتجاه ذهبت أدراج الرياح ولم تلقَ أية استجابة من الرئيس، الذي بات المتصرف الأكبر في إدارة الكيانات الفلسطينية، وحتى في تقرير خيارات الفلسطينيين السياسية المصيرية. ما يفاقم مشكلة الفراغ في الكيانات الفلسطينية («فتح» والمنظمة والسلطة)، واقع تعثّر الخيارات السياسية المعتمدة منذ قرابة ربع قرن، والقائمة على الارتهان لكيان السلطة والمفاوضة، وإصرار القيادة الفلسطينية على المضي في طريقها هذا على رغم انسداد أفقه، ومن دون اعتماد أية خيارات أخرى، بديلة أو موازية. على ذلك، يبدو مشروعاً عدم التفاؤل بعقد اجتماعات مؤتمر «فتح»، وتالياً المجلس الوطني الفلسطيني، لأن هذه الاجتماعات لن تضيف شيئاً، ولأن مهمتها تقتصر على إعادة إنتاج أو إعادة شرعنة الطبقة السياسية السائدة، بخياراتها وطرق عملها. عدم التفاؤل ناجم أيضاً، عن أن الدعوة الى عقد هذه المؤتمرات لم تأت نتيجة قناعة من الرئيس، والطبقة السياسية المسيطرة، بضرورة إعادة بناء الكيانات الفلسطينية، وتفعيل دورها، وإضفاء الحيوية والفاعلية على بناها، ولا نتيجة مطالبات بضرورة مراجعة الخيارات المعتمدة، بقدر ما تأتي نتيجة ضغوط خارجية، لذا فعلى الأرجح لا تغيير في الساحة الفلسطينية لا بمؤتمرات ولا من دونها. * كاتب فلسطيني
مشاركة :