القاهرة - الجزيرة نت: تثير تقلبات السياسة الخارجية المصرية الكثير من الأسئلة حول ثوابت هذه السياسة ومحدداتها وبوصلتها، ومدى ارتباطها بمصالح البلاد، خاصة في مرحلة الفوران والتحولات التي تمر بها المنطقة العربية منذ خمسة أعوام. وبوجه عام يمكن القول إن حالة "اللايقين" أصبحت هي الثابت الوحيد الذي يصوغ ويشكّل تحركات الفاعلين الإقليميين والدوليين، وذلك بعد تفجر الصراعات والنزاعات في أكثر من بؤرة عربية سواء شمالا في سوريا والعراق، أو جنوبا في اليمن، أو شرقا مع إيران، أو غربا في ليبيا. وهي حالة تضع عقبات كثيرة أمام صانع السياسة الخارجية، وتضيّق من حجم الخيارات المتاحة أمامه من أجل وضع سياسة ثابتة يمكنها تحقيق المصالح الوطنية. تحالفات مؤقتة يمكن القول، بقدر من الثقة، إنه لم تعد توجد تحالفات ثابتة ومستقرة في المنطقة العربية، وذلك منذ بدء موجة "الربيع العربي" قبل خمسة أعوام. فبينما أُغلق النصف الثاني من العقد الأول للألفية الجديدة على تقسيم المنطقة بين محوري "الممانعة" و"الاعتدال"، فإن مرحلة ما بعد "الربيع العربي" قد شهدت إعادة تشكل هذين المحورين بشكل جذري بحيث لم تعد هناك حدود واضحة ومعروفة بين كلا المحورين. وقد انهارت البنية التحالفية القديمة كي تحل محلها بنية صراعية بألوان طائفية، وهوياتية، وإستراتيجية، قلبت الموازين وجعلت من إمكانية وضع سياسة خارجية ثابتة مهمة صعبة التحقق. لذا تعيش القوى الإقليمية الرئيسية مثل مصر والسعودية وتركيا وإيران في حالة طوارئ مستمرة لا تسمح لها بكثير من المناورة فيما يخص سياساتها الخارجية. اللعب على الحبال لعل الملمح الأكثر بروزاً في السياسة الخارجية المصرية هو اتباع إستراتيجية "اللعب على كل الحبال". وهو أمر مرتبط بالأزمة العميقة التي يعيشها النظام الحالي الذي جاء بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، والتي تحولت إلى قيد مؤثر في صياغة سياسته الخارجية. ولعل هذا هو منبع التضارب والتخبط الذي تشهده هذه السياسة، وذلك على نحو ما حدث مؤخراً في مجلس الأمن حين صوّتت القاهرة على مشروعي قرارين متناقضين في نفس الوقت، أحدهما تقدّمت به روسيا والآخر فرنسا. وإذا أخذنا حالة العلاقة مع السعودية كمثال على تخبط السياسة الخارجية المصرية، ستبدو المسألة أكثر وضوحاً. فقد راهنت السعودية على نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي منذ أن قام بانقلابه قبل ثلاثة أعوام، ودعمته ولا تزال، واستثمرت فيه سياسياً ومالياً ودبلوماسياً، ولكنها لم تحصد ثماراً حقيقية من وراء هذا الدعم. بل على العكس، فقد خذلها هذا النظام في أكثر من مناسبة. أولها في الملف السوري الذي يبدو جلياً وجود اختلاف جذري في رؤية كلا الطرفين "المصري والسعودي" في التعاطي معه. فبينما تري الرياض أن نظام بشار الأسد هو جزء أصيل من الأزمة السورية، وبالتالي فلا حل من دون رحيل الأسد، فإن القاهرة ترى أن بقاء الأسد أمر أساسي في أي عملية انتقالية أو حل سياسي يتم فرضه هناك وهو ما يتناغم مع رؤية خصوم السعودية في المنطقة وأهمهم إيران. بل الأكثر من ذلك فإن ثمة شراكة إستراتيجية واضحة بين دمشق والقاهرة بدأت بعد انقلاب يوليو 2013 وتزداد متانة وقوة بمرور الوقت والمؤشرات على ذلك كثيرة أهمها الدعم اللوجيستي والعسكري الذي تقدمه مصر لقوات الأسد، ناهيك عن التعاون الأمني والاستخباراتي المتزايد بين الطرفين واستقبال القاهرة لوفود رسمية سورية كما حدث مع علي المملوك، رئيس دائرة الأمن الوطني السوري الذي استقبلته القاهرة قبل أسبوع وتم تسريب زيارته للإعلام بشكل مقصود كرسالة للرياض. ثانيها، ما يتعلق بالملف اليمني، والذي كشف ليس فقط خذلان القاهرة للرياض، وإنما أيضاً تورطها وتواطؤها مع الطرف الآخر الحوثيون وعلى عبدالله صالح، فحسب تقارير نُشرت مؤخراً فإن مصر باعت زوارق حربية متطورة للحوثيين، وهو ما يُعد "انقلاباً" على السعودية التي تخوض حرباً ضروساً في اليمن تحت مظلة ما يُسمي بـ "التحالف العربي". وثالثها، العلاقة بين القاهرة وطهران والتي انتقلت من مرحلة الدفء والتفاهم، إلى التقارب والتعاون طيلة العامين الأخيرين. لذا لم يكن مفاجئاً أن يشترط وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على نظيره الأمريكي جون كيري حضور وزير الخارجية المصري سامح شكري، مباحثات "لوزان" بشأن القضية السورية، وذلك قبل أسبوعين بشكل أثار الكثير من الأسئلة حول عمق العلاقات الإيرانية المصرية في عهد السيسي. دبلوماسية الابتزاز منذ وصوله إلى السلطة قبل عامين، يتبع النظام الحالي في مصر ما يمكن أن نسميه "دبلوماسية الابتزاز" كأحد مبادئ رسم وتحديد سياسته الخارجية. وهي دبلوماسية تنطلق من الأزمة التي يعيشها النظام سياسيا واقتصاديا ويرفض الاعتراف بها. وهنا يستخدم نظام السيسي كل الأدوات المتاحة من أجل الحصول على مكاسب مؤقتة يمكنها أن تزيد من عمره السياسي. وهو أمر يبدو واضحا في محاولة النظام ابتزاز حلفائه الإقليميين من أجل تثبيت حكمه داخليا.
مشاركة :