لم تنجح حملة الضغوطات والابتزازات الإسرائيلية في إجهاض المساعي العربية بلجنة التراث العالمي لاستصدار قرار يدين ممارسات «سلطات الاحتلال» الإسرائيلية التي تقوم بحفريات تحت المسجد الأقصى وفي أماكن أخرى من القدس القديمة. فرغم حملة شرسة لدى الدول الأعضاء في لجنة التراث، جرت الموافقة على مشروع القرار العربي الذي قدمه لبنان والكويت وتونس يوم أمس بحصوله على عشرة أصوات من أصل 21 صوتا من اللجنة. فيما عارضته دولتان وامتنعت ست دول أخرى عن التصويت. وبما أن التصويت جاء سريا، فمن الصعب تحديد وجهة تصويت كل دولة من أعضاء اللجنة. إلى ذلك، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أمس، استدعاء السفير الإسرائيلي لدى اليونيسكو «للتشاور» إثر القرار. وقال مكتب نتنياهو في بيان: «قررت استدعاء سفيرنا لدى اليونيسكو لإجراء مشاورات، وسنقرر الإجراءات التي سنتخذها ضد هذه المنظمة». كما هاجم نتنياهو المنظمة، متهما إياها باتخاذ قرارات معادية لإسرائيل، حسبما نقلت عنه الإذاعة الإسرائيلية. يذكر أن البعثة اللبنانية لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) لعبت دورا مهما في المحافظة على «أكثرية الصوت الواحد» بفضل العلاقات الجيدة التي كونتها مع كثير من الأعضاء. ويتمثل العرب في لجنة التراث بالبلدان الثلاثة المذكورة التي قدمت نص مشروع القرار بالتفاهم مع فلسطين والأردن وبدعم باقي الدول العربية. ويأتي القرار الجديد - إلى حد كبير - استكمالا للقرار الذي صدر عن المجلس التنفيذي لـ«يونيسكو» المكون من 51 عضوا والذي شنت عليه إسرائيل حملة «هستيرية» بحجة أنه ينفي «العلاقة التاريخية» بين الشعب اليهودي والقدس وجبل الهيكل لأنه يستخدم التسميات العربية الإسلامية، بحسب زعمها. إلى ذلك، قالت مصادر عربية في الـ«يونيسكو» لـ«الشرق الأوسط»، «إن منظمة التربية والثقافة والعلوم (ملزمة) باستخدام المصطلحات الحالية في الأمم المتحدة. لكن إسرائيل ركزت عليها (لحجب النقاش الحقيقي) الذي يتناول سياستها في القدس ومحاولاتها (تهويد) تاريخها ومحو التاريخ الإسلامي العربي». وأضافت موضحة: «يستخدم القرار تسميات (المسجد الأقصى) و(الحرم الشريف) والتسميات العربية لأبواب القدس القديمة. ويشكل البند الأخير من القرار الجديد نقطة الثقل، إذ ينص على وضع مدينة القدس القديمة وأسوارها على لائحة التراث الإنساني المهدد». وبهذا تكون المنظمة الأممية قد اعتبرت أن ما تقوم به إسرائيل يمثل تهديدا للتراث الإنساني بغض النظر عن دعايتها السياسية والحملات التي تقوم بها. ويتألف القرار الجديد الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نصه بالإنجليزية من ثلاث صفحات تشمل 26 مادة. وإذ يعيد التذكير بالمعاهدات الدولية وأولها معاهدة جنيف لعام 1949 حول حماية التراث الثقافي، فإنه يعرب عن «قلقه العميق» إزاء «الحفريات الأركيولوجية» التي تقوم بها سلطات الاحتلال ومجموعات المستوطنين في المدينة القديمة. كما يطلب من إسرائيل أن توقف هذه النشاطات كافة عملا بالتزاماتها تجاه الـ«يونيسكو» واتفاقياتها وتوصياتها. ويتطرق القرار كذلك إلى الأضرار التي أحدثتها قوات الأمن الإسرائيلية نهاية أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2014 في منافذ المسجد القبلي وعلى المضايقات الإسرائيلية الخاصة بالأشغال على مدخل «باب الرحمن»، كما يدعوها لتسهيل عمليات الترميم الـ19 التي يريد الأردن القيام بها في محيط المسجد الأقصى. ويدعو القرار إلى تمكين خبراء السلطات المحلية، وكذلك الوقف الأردني، من الوصول غير المحدود إلى المدينة القديمة بغرض المحافظة على تراثها. كما يطلب من السلطات الإسرائيلية منع الأعمال الاستفزازية التي تقوم بها الجماعات المتطرفة، بحسب ما نصت المواد. ويعرب القرار في سياق متصل عن «أسفه العميق» للأضرار التي ألحقتها إسرائيل بسيراميك قبة الصخرة والمسجد القبلي وبالموروثات الأموية والعثمانية والعائدة لمرحلة المماليك ويدعوها إلى احترم هذا التراث التاريخي والمحافظة على «الوضع القائم» للمسجد الأقصى / الحرم الشريف باعتباره «موقعا مقدسا للمؤمنين المسلمين وجزءا لا يتجزأ من التراث العالمي». ويوجه القرار تنديدا مباشرا بالأشغال التي بدأتها إسرائيل في مايو (أيار) من العام الماضي في الحائط الغربي للمسجد الأقصى وبما تقوم به في باب المغاربة. كما يحث البند 20 إسرائيل على التعاون مع هيئة الوقف الأردنية (المشرفة على الأقصى) ومع خبرائها لتسهيل عمليات الترميم في باب المغاربة التي قدم الأردن تصاميمها إلى مركز التراث العالمي منذ عام 2011. كما يدعو البند 22 المجلس التنفيذي لمنظمة التراث الأممية إلى إعادة إحياء بعثتها التي رفضت إسرائيل حتى الآن استقبالها والمكلفة مهمة معاينة ومراقبة ما تقوم به إسرائيل في المدينة القديمة مشددا في البند 23 على الحاجة «الملحة» لتنفيذ هذه المهمة. إلا أن مركز الثقل في القرار الجديد أنه يضع، في مادته الأخيرة، القدس القديمة وأسوارها على لائحة التراث الإنساني المهدد. وحتى الآن، رفضت إسرائيل تحت حجج مختلفة استقبال بعثة الـ«يونيسكو» التي ستكون بطبيعة الحال مكونة من خبراء مستقلين. وبحسب المصادر العربية في المنظمة الأممية، فإن القرار «قد لا يغير شيئا» من السلوك الإسرائيلي لكنه «يشكل أداة ضغط قوية» على إسرائيل خصوصا لجهة اعتبار أن تراث القدس مهدد، مما يعني ضمنا أن المسؤولية تقع على سلطات الاحتلال. وبما أن القدس موجودة على لائحة التراث العالمي، فإن مسوؤلية المحافظة عليها أصبحت مسوؤلية عالمية. يذكر أنه منذ أن انضمت فلسطين كعضو يمتلك كافة حقوق العضوية في الـ«يونيسكو»، أصبحت المنظمة الدولية مستهدفة من حملات إسرائيلية وأميركية وكندية وألمانية، وإلى حد ما بريطانية. ومع كل قرار جديد يصدر عنها، تصب إسرائيل عليها جام غضبها ناسبة إليها جميع أنواع التهم بما فيها هيمنة أجواء معاداة السامية والعنصرية وخلافها. وتجد هذه الحملات في باريس وغيرها من العواصم الغربية من يروج لها ويدعمها.
مشاركة :