القاهرة: الخليج الرائحة تباغتك كلما اقتربت من دخول قرية شبرا بلولة، رائحة لا تخطئها حاسة الشم، وعند دخولك القرية تجد نفسك محاصراً بحقول الياسمين، وتسلم لخيالك العنان لترسم صورة لسكان قرية تزرع الياسمين، وتصنع عجينته لتصدرها إلى أوروبا. الياسمين هذه الزهرة التي توصف بأنها الأرق بين الزهور العطرية، حيث تجمع بين صفاء الشكل وعذوبة الرائحة، هي نفسها التي كانت السبب في وضع قرية شبرا بلولة في صدارة خريطة القرى المنتجة للزهور في العالم. تخصصت قرية شبرا بلولة التابعة لمحافظة الغربية في مصر، منذ عقود في زراعة الياسمين، فهذه القرية التي يصل تعداد سكانها إلى نحو 50 ألف نسمة، تحولت إلى قبلة لصناع العطور من مختلف أنحاء العالم، الذين يحرصون على شراء هذه الزهرة المصرية، للاستفادة من المواد المستخرجة منها لإنتاج أرقى العطور وأغلاها سعراً، حيث تنتج هذه القرية ما يعادل 70% من عجينة الياسمين على مستوى العالم. الياسمين كان سبباً في الشهرة التي نالتها هذه القرية المصرية، بعدما احترف مزارعوها زراعته، واستخلاص العطر الخام منه، وتصدير معظمه إلى كبريات شركات العطور، واستخدام الجزء الباقي في صناعة العطور المحلية، التي يتم إنتاجها في الغربية وعدد من المحافظات المجاورة. يبدأ حصاد الياسمين كل يوم مع آخر ضوء للشمس، ويستمر حتى ترسل الشمس أشعتها، فهذه الزهرة شديدة الحساسية وتحتاج إلى جو لطيف بعيد عن أشعة الشمس. فوق ما يسمى رأس الغيط يجلس رجل أربعيني العمر، ممسكاً في يده دفتراً وميزاناً، يرتدي جلباباً نظيفاً، وحوله امرأة ورجل وعدة أطفال، اتجهنا في البداية نحو الرجل الممسك بيده الدفتر وسألناه عن تكلفة زراعة الياسمين وربحيته، فرد قائلاً: لا أعرف، أنا مجرد وسيط بين الفلاح وصاحب المصنع، مهمتي أن أشتري المحصول من الفلاح من الغيط بسعر، وأورده للمصنع بعد أخذ عمولتي، التي تصل إلى 4 جنيهات في الكيلو، وعندما سألناه عن السعر الذي يشتري به من الفلاح قال لنا: 24 جنيهاً. تزهر شجرة الياسمين كل يوم، لذا فإنها تحتاج إلى أيد عاملة كثيرة ومدربة، تقوم على جمع الزهرة قبل أن تذبل. يتفق العامل على نسبة من المحصول النصف والنصف، أو الثلث والثلثين، أي إذا زرع الفلاح ثلاثة كيلوغرامات، فإن نصيبه منها يكون 2 كغ، وعامل الجمع كغ واحد. وكما يحتاج الحصاد إلى أيد عاملة كثيرة، تحتاج الشجرة طول السنة إلى رعاية وتسميد وتقليم، تبدأ من شهر سبتمبر/أيلول ، حتى مايو/ أيار من العام الذي يليه. نباتات عطرية تمتلك بسمة وهي إحدى فلاحات القرية، قطعة أرض لا تزيد على خمسة قراريط، خصصتها لزراعة الياسمين، تقول: الإنتاج الذي نحصده في الموسم الواحد يقسم بين صاحب الأرض والعامل الذي يجمع المحصول، وهو عرف سائد في القرية منذ سنوات بعيدة. يملك المهندس أشرف الشبراويشي مصنعاً لإنتاج العطور في القرية، يقول عن هذه التجربة: أنشأت هذا المصنع منذ سنوات في القرية التي تشتهر بزراعة الياسمين، منذ منتصف القرن الماضي. ومن خلال تجربتي عرفت أن شجرة الياسمين من الأشجار المعمرة، التي يزيد عمرها على 30 عاماً، والقرية لا تزرع الياسمين فقط، لكنها اتجهت منذ سنوات لزراعة نباتات عطرية أخرى، مثل القرنفل والريحان واللارنج. يمر التصنيع حسبما يقول الشبراويشي بعدة مراحل، تبدأ عند تسلم زهور الياسمين من الفلاحين ووزنها، وبعدها توضع الأزهار في أوانٍ نحاسية، لتتعرض ل غاز الهيكسان، وهو الغاز الذي يقوم على فصل الزهرة عن الزيت، بمساعدة البخار الذي يُضخ على الزهور، التي تُنقل بعد ذلك إلى جهاز لاستخلاص الزيت الناتج عن الزهرة، وفصله عن الهيكسان، ثم يدخل الزيت إلى المعمل لإنتاج العجينة. من جدود الجدود تحت شجرة ياسمين وارفة يجلس بدر محروس، في العقد السابع من عمره، يتابع خمسة من الفلاحين الذين يحصدون محصول الياسمين، يحفزهم إذا تلكؤوا في الجمع، قائلاً هموا قبل أن تحمى الشمس على الياسمين. يقول بدر: نزرع الياسمين من جدود الجدود، وهي شجرة مباركة ورثها كل من يملك أرضاً في القرية عن والده. فالياسمين شجر معمر يطرح زهوراً متجددة كل يوم، من شهر مايو/أيار، إلى شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فهو يظل يلقي بزهوره لمدة سبعة أشهر في العام، والزهرة للفلاح معناها حصاد كل يوم وخير يعم عليه. يبدأ المزارعون في شبرا بلولة تقليم الشجر في شهر ديسمبر/كانون الأول من كل عام، ويحصلون على الفروع الغضة الصغيرة ليزرعوها حتى تنبت شجراً جديداً في أماكن أخرى. يقول بدر: حتى الذين لا يعملون في صناعة العطور، يزرعون تلك الشجرة المباركة؛ لأنها تريح الأعصاب، وربما كان ذلك هو السبب في خفض نسبة المشاجرات بين الأزواج والزوجات في قريتنا، والتي تكاد تكون منعدمة، فالبيوت هادئة وهذه نعمة أخرى أنعم بها الله علينا بسبب شجر الياسمين. يقول أشرف الشبراويشي: أثبت الباحثون في علم الزهور أن الأشخاص الذين ينامون في غرف معطرة برائحة الياسمين المهدئة، ينعمون بنوم أفضل وأكثر هدوءاً، ويبدون أكثر راحة ونشاطاً. يضيف: أثبت بحث في جامعة ويلينغ جيسويت غربي ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، أن عبق الياسمين يريح الأعصاب، الأمر الذي يلعب دوراً كبيراً في المحافظة على النشاط والحيوية، خصوصاً في فترات ما بعد الظهيرة والمساء. يتابع: لوحظ أن الأشخاص الذين استنشقوا رائحة الياسمين، ناموا أسرع من الآخرين الذين ناموا في غرفة معطرة بزهرة اللافندر، أو غرف غير معطرة، حيث ظلوا يتقلبون في فراشهم لفترات طويلة، فرائحة الياسمين أكثر فاعلية من العطور الأخرى في تحقيق نوعية نوم أفضل.
مشاركة :