محمد حماد هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، (الأحزاب: 11) في غزوة الخندق، حيث كانت أحزاب المشركين تحاصر المدينة، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم أخبارهم، فانتدب لتلك المهمة حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، ويروي حذيفة القصة فيقول: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها، أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، يتسللون ونحن ثلاثمئة أو نحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا حتى مر علي، وما علي جنة من العدو، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟، قلت: حذيفة، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم، فقال: قم. فقمت، فقال: إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم، قال: وأنا من أشد الناس فزعاً، وأشدهم قرا، فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، قال: فو الله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوف إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئا، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئا حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل.. الرحيل.. ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون: الرحيل.. الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، ومن بينهم الريح يضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا متعممين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون. فأنزل الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً* إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، (الأحزاب: ( 9 11). مهمة صعبة وروى مسلم بسنده عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان. قبلها كان حذيفة رضي الله عنه قد شارك وأبوه في غزوة أحد، وأثناء القتال، نظر حذيفة إلى أبيه فرآه وهو تتناوشه سيوف المسلمين ظنا منهم أنه من المشركين، فنادى: أي عباد الله، أبي أبي، فلم يفهموا قوله، وما احتجزوا حتى قتلوه، وحين علم المسلمون تولاهم الحزن والوجوم، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، وانطلق يؤدي واجبه، وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة، ولكنه يتصدق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا، يقول عروة بن الزبير: فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية خير حتى لقي الله عز وجل. أسماء المنافقين ويروي حذيفة رضي الله عنه فيقول: بينا النبي صلى الله عليه وسلم سائر إلى تبوك نزل عن راحلته ليوحى إليه وأناخها النبي صلى الله عليه وسلم فنهضت الناقة تجر زمامها منطلقة، حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها يقودها، حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فأناخها، ثم جلس عندها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟، فقال: حذيفة بن اليمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك سرا لا تحدثن به أحدا أبدا، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان: (رهط من المنافقين)، فلم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحد غير حذيفة بن اليمان، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان حذيفة يقول: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون. ولما استخلف عمر رضي الله عنه، كان إذا مات الرجل ممن يظن عمر أنه من أولئك الرهط، الذين أبلغ عنهم النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة، أخذ بيده فقاده، فإن مشى معه صلى عليه، وإن انتزع حذيفة يده فأبى أن يمشي، انصرف معه، ويأمر من يصلي عليه. وفي مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفاه الله فيه، دخل حذيفة عليه فقال: يا رسول الله، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي؟ يقول حذيفة: فرد علي بما شاء الله، ثم قال: يا حذيفة ادن مني، فدنوت من تلقاء وجهه، قال: يا حذيفة إنه من ختم الله به بصوم يوم، أراد به الله تعالى أدخله الله الجنة، ومن أطعم جائعاً أراد به الله، أدخله الله الجنة، ومن كسا عاريا أراد به الله، أدخله الله الجنة قلت: يا رسول الله، أسر هذا الحديث أم أعلنه؟، قال: بل أعلنه، يقول حذيفة: فهذا آخر شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. مرحباً بالموت كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وهو واضح كالشمس، ولكن حذيفة يسأله عن الشر، ويروي البخاري أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في الجاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟، قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟، قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟، قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟، قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك. وكان حذيفة رضي الله عنه يحب العزلة ويقول: لوددت أن لي من يصلح من مالي، وأغلق بابي فلا يدخل علي أحد، ولا أخرج إليهم حتى ألحق بالله، ولما نزل بحذيفة الموت دخل عليه بعض أصحابه فسألهم: أجئتم معكم بأكفان؟، قالوا: نعم، قال: أرونيها، فوجدها جديدة فارهة، فابتسم وقال لهم: ما هذا لي بكفن، إنما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فإني لن أترك في القبر إلا قليلاً، حتى أبدل خيرا منهما، أو شرا منهما، ثم تمتم بكلمات: مرحبا بالموت، حبيب جاء على شوق، لا أفلح من ندم، وأسلم الروح الطاهرة لبارئها، ولم يكن قد مضى على مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أربعون ليلة.
مشاركة :