الموفق من أهل العلم، لا يجامل أحدا في الحق، لكنه لا يستعدي على المخالفين، وإنما يدعو لهم بالتوفيق والهداية، كما هو دأب الراسخين في العلم قديما وحديثا في هذا الزمن الذي تعج فيه الفتن، يكثر الصخب والضجيج، وتنتشر الشبهات، ويظهر المتعالمون -وإن كان الخير وأهله بحمد الله موجودين- يظهر أولئك المتعالمون، عبر كثير من الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، فكلٌ محلل سياسي، واقتصادي، وإعلامي، وخبير بالحركات الإسلامية، ومُفْتٍ، حتى أُعجب كثير من هؤلاء بأنفسهم، وشوشوا على غيرهم، وقديما قيل: وقال الطــــــانِزونَ له فقيهٌ فصعَّدَ حاجبيهِ به وتاهـــــــــا وأطرَقَ للمسائل أي بأنّي ولا يدري لعمرُكَ ما طحاها في هذا الواقع، تدعو الحاجة بل الضرورة إلى الراسخين في العلم، وليس كل عالم يعد من الراسخين. فالراسخون في العلم هم: الثابتون على الحق، الذين لا تستفزهم الشبهات، لو وردت على أحدهم -كما يقول ابن القيم- من الشبه عدد أمواج البحر، ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا، لأنه قد رسخ في العلم، بل إذا وردت عليه تلك الشبهات، ردها حرس العلم وجيشه، مغلولة مغلوبة. يقول ابن القيم -رحمه الله- قال لي شيخ الإسلام، وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد: "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها، صار مقرا للشبهات". قال: فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك. ونتيجة لهذا الرسوخ واليقين، صار ثباتهم كثبات الجبال الرواسي التي لا تحركها العواصف، مهما كانت شدتها، في حين تهوي رياح الفتن في كثير من الناس في مكان سحيق، فيصدر منهم من الأقوال والأفعال ما يدل على استعجالهم وقلقهم وتناقضهم، والواقع شاهد، والأمثلة كثيرة. أما الراسخون في العلم: فلا يستخفنهم الذين لا يوقنون، ولهذا فموقفهم واحد، في السراء والضراء، لا يتكلمون إلا بما يدينون الله به من الحق، رضي من رضي، وسخط من سخط، يوقنون بأن رضا الناس غير مأمور به، ولا مقدور عليه، ورضا الله مأمور به، ومقدور عليه. لم يتلوثوا بالأهواء والحزبيات المقيتة، التي تُخرِج الإنسان من سعة الإسلام وشموله، إلى قوالب ضيقة، وجماعات متحزبة، يكرهون التناقض والتلون لعلمهم أن التلون من النفاق، وليس من الدين، وإن سمّاه غيرهم ذكاء وسياسة. ففي صحيح البخاري، أن ناسا قالوا لابن عمر "رضي الله عنهما": إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم؟ قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم". لهذا نجد ربانية الموقف، في أولئك العلماء الراسخين، فحري بأهل العلم أن يحذوا حذوهم، وذلك باتباع صراط الله المستقيم، وترك السبل المضلة، لئلا تفرق بهم عن سبيله، وليس لهم أن يستطيلوا الطريق، وينفذ صبرهم، ويقولوا: دعونا، وتكلمنا، فلم يستجب الناس لدعوتنا، فيسلكوا مناهج باطلة، طمعا في عرض الدنيا، أو اتباعا لما يطلبه المستمعون. والموفق من أهل العلم: هو من يُعظم الحق، ويرحم الخلق، ولا يكون فظا ولا غليظا ولا مستكبرا، وإنما يكون ذا حلم وأناة، ويسره "ولا يغُره" كثرة المستفيدين منه إذا كان على الجادة، ويرد على المخطئين والخاطئين بعلم وعدل، لا يجامل أحدا في الحق، لكنه لا يستعدي على المخالفين، وإنما يدعو لهم بالتوفيق والهداية. كما هو دأب الراسخين في العلم قديما وحديثا، وأرجو أن من أولئك الراسخين في العلم ابن باز -رحمه الله- فقد سئل عن سبب محبة الناس له على رغم اختلافهم فيما بينهم؟ فأجاب بقوله: "لا أعلم شيئا إلا أني بحمد الله منذ عرفت الحق في شبابي وأنا أدعوا إليه، وأصبر على الأذى في ذلك، ولا أحابي أحدا، ولا أداهن في ذلك أحدا، أقول الحق وأصبر على الأذى، فإن قُبِل فالحمد لله، وإن لم يُقْبَل فالحمد لله. هذا هو الطريق الذي رسمته لنفسي مشافهة ومكاتبة، قَبِله من قَبِله، وردَّه من ردَّه، فلا أعلم سببا إلا هذا السبب، أني أقول الحق بحمد الله، حسب طاقتي، وأنشره قولا وعملا، ولا أعتب ولا أوذي إذا قدرت، بل أدعو له بالتوفيق والهداية، هذا هو طريقي مع الملوك ومع غير الملوك". فنسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، ويرزقنا طريقة الراسخين في العلم.
مشاركة :