يميل المزاج الشعبي في روسيا للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، ورجحان ميزان تفضيله على المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، هذا ما أظهرته نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز «اتجاهات الرأي العام» الروسي في تشرين الأول (اكتوبر) الجاري، ونشرت صحيفة «فيدومستي» تفاصيله، حيث ارتفع عدد داعمي ترامب بين الروس الى 38 في المئة مقابل 22 في المئة في أيار (مايو) الماضي، في حين استقرت نسبة داعمي منافسته عند 8 في المئة في الاستطلاعين، فيما ارتفعت نســـبة الروس الذين يأملون بهزيمة كلينتون من 45 في المئة الى 61 في المئة. وبرأي المحلل الروسي افغيني مينتشينكو «إن الانتخابات الأميركية الحالية هي الأهم بالنسبة للمواطنين الروس في مرحلة ما بعد الشيوعية، وذلك بسبب الدور الذي تلعبه فيها روسيا». فيما عزا المحلل اليكسي ماكاركين تفضيل الروس ترامب الى «قناعتهم بأنه سينصرف الى المشاكل الداخلية، ويترك روسيا لحالها». وقال «إن الروس يحدوهم الأمل في أن يرفع ترامب منسوب الصراعات السياسية في الداخل في شكل يعزل أميركا عن العالم أجمع». ربما يكون الأميركيون منقسمين في تأييدهم ترامب وكلينتون، ولكن دول العالم الأخرى لا تخفي رغبتها في فوز الأخيرة، وهو ما كشف عنه استطلاع للرأي أجرته وكالة «WIN-Galup International» في 45 دولة في العالم حيث «تقدمت كلينتون في شكل كبير على ترامب حتى في بلد زوجته ميلانيا، الدولة اليوغسلافية السابقة سلوفينيا، باستثناء روسيا ومناطق الدولة الفلسطينية التي تقدم الدعم لكلينتون فيها بفارق ضئيل للغاية». ويقول الخبير في الشؤون الروســية ايفان كريستيف في مقالة له في صحيفة «نيويورك تايمز» أنه «ليس من الصعب تفسير تفضيل الروس ترامب، إذ في الوقت الذي وصلت فيه العلاقات الروسية – الأميركية الى أسوأ أشكالها بعد الحرب الباردة، أعلن ترامب أنه يرى في روسيا حليفاً، ويعتبر بوتين صديقاً ومثالاً يحتذى به». وقال: «الفلسطينيون يفضلون ترامب لقناعتهم بأن كلينتون ستكون الحليف الأقرب لإسرائيل مقارنة بالجمهوري الذي هو برأيهم أهون الشرّين». يحتل تدخل روسيا الصريح في الانتخابات الأميركية مساحات واسعة من المداخلات والسجالات ليس في الولايات المتحدة، بل في جميع أنحاء العالم، وقالت صحيفة «غارديان» أن «تسريبات الرسائل الالكترونية للحزب الديموقراطي تعد هجوماً خطيراً على البنية التحتية للسياسة الأميركية». ويتفق المراقبون على «أن هناك رهانات قوية لدى بعض الدوائر الروسية الحاكمة على ترامب حيث يلقى خطابه رضا وقبولاً في الكرملين». وتساءلت مجلة «Foreign Policy» عما إذا «كان ترامب عميلاً روسياً أو دمية في يد رئيسها بوتين يستخدمه للتدخل في الشؤون الأميركية». وكان الرئيس الروسي وصف ترامب بأنه «شخص لامع وموهوب». يعتمد الكرملين على أدوات ووسائل إعلامية عديدة في الولايات المتحدة - مثل قناة «روسيا اليوم» ووكالة أنباء «سبوتنيك» للتأثير في مسار الانتخابات الأميركية وغيرها- فهي تكرر من دون انقطاع تفضيلها المرشح الجمهوري، وذهبت «سبوتنيك» الى حد القول أنها «سبقت ترامب في اتهامه أوباما بتأسيس داعش». ويلفت البروفيسور في جامعة ميشيغان بول ميس غريب الانتباه الى «أن أنجح محاولة للتأثير في السياسة الأميركية كانت أجريت خلال فترة الحرب الباردة»، مشيراً الى ما كان ذكره الأستاذ في جامعة كمبردج كريستوفر اندريو في كتابه «السيف والدرع» عن «أن عمليات التأثير وكسب النفوذ، ونشر المعلومات الكاذبة كانت في صلب عمل الاستخبارات الروسية الكي جي بي». بوتين وترامب: سياسات عبثية تدخلت الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء في الشؤون السياسية الداخلية للدول الأخرى وفق الأستاذ في جامعة كاليفورنيا دوب ليفين الذي رصد 117 تدخلاً للدولتين في دول ثالثة في الفترة 1946- 2000. وقال: «هذا التدخل في بعض الأحيان كان علنياً، كما حصل على سبيل المثل عندما بذل مسؤولون أميركيون كل ما في وسعهم لإظهار تفضيلهم المستشار كونراد اديناور في الانتخابات الألمانية خلال العام 1953» وأضاف: «في أحيان أخرى ظلت مثل هذه التدخلات سرية مثل الدعم الأميركي للأحزاب السياسية في تايلند العام 1969». ويستنتج ليفين «أن تدخل البلدين في انتخابات الدول الأخرى ما كان ليحصل لولا نجاحه في تغيير مسار الانتخابات»، مشيراً الى «أن تدخل دولة عظمى غالباً ما يقود الى تغيير الميزان لمصلحة المرشح المفضل بنسبة تصل الى 3 في المائة». إلا أن هذا لا يعني برأيه قدرة هاتين الدولتين في جميع الحالات على تغليب المرشح الذي تفضلانه في شكل مطلق، بقدر جذب المزيد من الأصوات لمصلحته، ويؤكد انه «حتى لو سخرت روسيا كل إمكاناتها وقدراتها لدعم ترامب، فهذا لا يعني انه مرشح روسي مستعد لتنفيذ إرادة بوتين وخدمة مصالح الكرملين». وقال «إن بوتين يثق بأنه سيحقق في حال فوز ترامب فوائد أكبر مما لو كانت كلينتون في البيت الأبيض». ويرى نائب رئيس تحرير صحيفة «واشنطن بوست» جاكسون ديل «أن ترامب ليس عميلاً سخّر نفسه لخدمة بوتين، ولكن من الصعب معرفة المدى الذي ذهب اليه بوتين للدفع باتجاه انتخاب ترامب»، مشدداً على «أن المسألة الأكثر أهمية هي «أن الاثنين يتشاطران سياسة عبثية في العلاقات الدولية». يقارن ديل بين بوتين وترامب، مستنتجاً «أن بوتين وبعد 15 عاماً في السلطة يتقن و «يبرع» في فنون الاحتيال السياسي، والتخريب، والعدوان التكتيكي». وفي هذا المشهد يبدو ترامب امامه هاوياً للسياسة، ونتيجة هذه التوليفة سيكون ليس فقط انتصار اللاخلاق في العلاقات الدولية، بل زيادة النفوذ الروسي على حساب الأميركي في العالم». ترامب ومزاج الأوروبيين تنشغل مراكز البحوث الغربية في تفسير ظاهرة انحسار شعبية ترامب خارج الولايات المتحدة، في حين أن مجتمعات الغالبية العظمى من دول العالم ومنها الدول الغربية لا تخفي ولعها بنموذجه السياسي الشعبوي وتبدي استعدادها التام لدعم أحزاب وسياسيين في بلدانها يتميزون بخطابه الغاضب نفسه على الاستابلشمنت والرافض السياسات الليبرالية وتفضل قوى قومية متشددة ونازية جديدة ترفع شعارات عبثية مناهضة للمشروع الأوروبي ومعادية للسامية واللاجئين والمهاجرين والإسلاموفوبيا. في النمسا حيث تتزايد احتمالات تصويت غالبية الناخبين لمرشح «حزب الحرية» اليميني القومي المتشدد لكرسي الرئاسة، أظهرت استطلاعات الرأي أن كلينتون حصلت على دعم 78 في المئة من النمسويين، مقابل 9 في المئة فقط لترامب. الإيطاليون أيضاً الذين طيلة عقدين من الزمن حرصوا على إهداء الحكم للشعبوي برلسكوني يدعمون في غالبيتهم كلينتون، وهو موقف يشترك فيه معهم ملايين الهولنديين الذين يدعمون سياسة السياسي الشعبوي المناهضة للمهاجرين غيرت فيلدرز. لماذا هذان التذبذب والتناقض في مواقف الناخبين في هذه الدول؟ يقدم كريســتيف وهو رئيس «مركز الاستراتيجيات الليبرالية» في صوفيا في حديث لـ «الحياة» افتراضين لتفسير هذه الظاهرة، الأول هو «أن أنصار الأحزاب الشعبوية وداعميهم بغالبيتهم العظمى في دول أوروبا وآسيا، وأميركا اللاتينية يؤمنون بأن الخيار اللاعقلاني مفيد في البلدان الصغيرة، ولكنهم يشعرون بفظاعة ورعب من إمكان وقوع الأميركيين ضحايا لشعبوية وتضليل ترامب لحد التصويت له في الانتخابات»، ذلك انهم يعتقدون «أن الفارق بين اختيار رئيس مثل ترامب في دول مثل بلغاريا أو هنغاريا أو النمسا هو مثل الفارق بين أن تختار بين الأسلحة التقليدية والنووية». والثاني يتمثل في «أن التمرد على العولمة يكمن في لب رسالة ترامب وجوهرها، وهي حالة تميز جميع الأحزاب الشعبوية في العالم، إلا أن مناهضة العولمة لدى ترامب لا تبدو مقنعة لما تبقى من مجتمعات العالم، وفي الوقت الذي يهاجم الشعبويون خارج أميركا العولمة لأنها تخدم المصالح الأميركية، يخرج ترامب ليقول للعالم أن «أميركا هي ضحية للعولمة». يكتسب الرئيــس بوتــين شعبية متزايدة في أوســـاط الفـئات الغاضبة على حكوماتها في أوروبا، كما ويتزايد نفوذه بين الأحزاب الــشــعبوية والقومــية المـــتشــددة واليـسارية المتطرفة والتيارات النازية الجديدة التي ترفع صوره وأعلام روســيا في تجمعاتها وتظاهراتها المعارضة لحكومات بلدانها، هذا يحدث في وقت يفتقد فيه ترامب الى أي دعم جدي من أنصار هـــذه الأحزاب والقوى التي تميل لمواقفه ويلهــمها خـــطابه المعادي للعولمة. ولكن وعلى الرغم من ذلك، لا تزال روسيا غير مفضلة من غالبية الأوروبيين ومواطني دول أخرى في العالم، فقد كشفت نتائج استطلاع أجراه معهد (Pew Research Center) الأميركي نهاية آذار (مارس) الماضي في 40 دولة في العالم وشارك فيه 45 الف شخص عن صورة مغايرة تماماً حيث أعرب 30 في المئة ممن شارك في الاستطلاع عن موقف إيجابي من روسيا، مقابل 51 في المئة أبدوا موقفاً سلبياً، كما أن الموقف من بوتين أكثر سلبية مما هو حيال بلده، اذ أعلن 24 في المئة فقط أن السياسة التي ينتهجها على الساحة الدولية صحيحة». وفي أوروبا، أيد 26 في المئة بوتين مقابل 69 في المئة لأوباما، وفي أفريقيا دعم 79 في المئة أوباما مقابل 37 في المئة لبوتين، أما في بلدان الشرق الأوسط فلقد كانت النسبة للاثنــين ضــعيفة 29 في المائة لأوباما و25 في المائة لبوتين». وحصل بوتين على نسبة دعم كبيرة في فيتنام 70 في المئة وفي الصين 54 في المئة. ترامب والعولمة الأميركية كيف يمكن أن نفهم ظاهرة ترامب؟ عن هذا السؤال يجيب الفيلسوف والمحلل السياسي من جامعة نيويورك ستيفن هولمز: «هذا يستلزم أن نعي وندرك واقع أن كل ما كان الأميركيون يعتبرونه في السابق يحتل موقع الأولوية، أضحى الآن بالنسبة لهم مصدراً استراتيجياً لانعدام الأمن، فالعولمة لم تعد تعني أسواقاً جديدة للسلع والبضائع الأميركية، أو مصدراً للأفكار الملهمة أو للتقنيات الحديثة، وانما فقدان الوظائف وفرص العمل والبطالة والإرهاب والمهاجرين». أدرك الأميركيون بعد سلسلة الحروب التي خاضتها بلادهم في الخارج أن نتائجها على أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية وأمنهم كانت كارثية. يقول هولمز: «لقد أصبح واضحاً لجميع الأميركيين أنه ليس بالضرورة وفي مطلق الأحوال أن تلتزم البلدان التي تعمل واشـــنطن على إجــ1راء انتخابات ديموقراطية فيها بدعم المصالح الأميركية، كما وأنهم مقتنعون الآن بأن نشر الديموقراطية يمكن أن لا يؤدي الى قيام حكومات حليفة للولايات المتحدة، بل الى نشوب نزاعات مسلحة وحدوث انهيارات مجتمعية ودمار عام». يســتنتج كريستيف: «إن مشكلة ترامب الأساسية هي انه في الوقت الذي يعتقد فيه الأميركيون بغالبيتهم بأنهم الضحية الأولى للعولمة، فإن الجزء المتبقي من العالم لا يتفق معهم في هذا الرأي، وذلك لأن العالم الذي ينكره العدد الأكبر من الأميركيين اليوم، هو في الحقيقة عالم صنعته أميركا».
مشاركة :