جالسة على قطعة من الورق المقوى محاطة بأقاربها، بكت صبرية بهدوء فوق كومة من التراب والصخور تحت سماء مظلمة سودتها حرائق آبار النفط التي أشعلها مقاتلو تنظيم داعش قبل أسابيع. في المقبرة الواقعة جنوبي الموصل دمرت القبور مع المئات من شواهدها محطمة على يد مقاتلي التنظيمن في هذه الأجواء دفنت صبرية حمد ابنها في مقبرة دمرها الأشخاص الذين قتلوه. قالت صبرية لقد دمروا كل شيء. قالت وهي ترمي بنظرها صوب المئات من شواهد القبور المحطمة التي يعود بعضها الى عشرات السنين. نجحت القوات العراقية في طرد مقاتلي داعش من القيارة في الصيف الماضي وهي تتقدم نحو الموصل، ثاني مدن العراق وهدف الهجوم العراقي الذي انطلق في 17 اكتوبر / تشرين أول الجاري. لكن بعد أشهر من انسحاب المقاتلين، لا يزال أهالي القيارة يحاولون التعامل مع الدمار الذي خلفوه من ورائهم، وضحايا الحرب الذين لم يرقدوا بسلام بعد. بدأ المتطرفون في هدم شواهد القبور بعيد اجتياحهم أنحاء واسعة من شمال العراق ووسطه عام 2014. وقالوا إن شواهد القبور محرمة كونها لم تستخدم في عهد النبي محمد. كما منعوا الأهالي من زيارة القبور التي يعتقد المتطرفون انها عادة وثنية. طبعت الحرب بسماتها المقبرة منذ فترة طويلة حتى قبل قدوم تنظيم داعش. وتضم المقبرة رفات ضحايا التفجيرات الانتحارية والاشتباكات والهجمات الصاروخية والتي تعود جميعها مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. محمد، نجل صبرية، قتل بعد أسابيع على إعلان تحرير القيارة عندما شن التنظيم هجوما مضادا حيث سقطت قذيفة هاون أمام منزله. الانفجار قتله وقتل معه ابن عمه وأصاب شقيقه بجراح خطيرة. ولصبرية سبعة أقارب آخرين راقدين في المقبرة، في مكان ما تحت الحجارة المبعثرة. وتقول عندما أرى هذه الحجارة مبعثرة فوق القبور أشعر بالحزن كما لو انهم توفوا مرة أخرى. جاء عبد الرزاق طلاّب لزيارة قبر زوجة أخيه، التي قتلت هذا الشهر بقذيفة هاون أطلقها داعش، ولزيارة قبر شقيقه، الذي قتل في انفجار سيارة ملغومة في الموصل في 2008. وقال طلاّب إنه عندما كان تنظيم داعش يسيطر على القيارة جنده المتطرفون لقيادة السجناء إلى المقبرة لتدمير شواهد القبور. كما كان التنظيم يعتقل الرجال المدخنين أو حالقي اللحية، وكانوا يجبرون على تدنيس قبور أجدادهم. وقال طلاّب إنه لم يستطع حمل نفسه على مشاهدة ذلك، واختلق عذرا للمغادرة. وأضاف كيف يمكن لأي شخص البقاء هنا ومشاهدتهم وهم يفعلون ذلك؟ كان شاهد قبر شقيقه قد تحطم إلى عدة قطع، ليختفي اسمه وتاريخ مولده ووفاته. إلا أن طلاب يتذكر. كما يعرف أيضا الرجال الثمانية عشر المدفونين في صف واحد تحت أكوام حديثة نسبيا. وقال توجهت عناصر داعش من باب إلى باب لإطلاق النار على كل رجل منهم في بيته. وفيما يقترب طلاب من كومتين صغيرتين، تذكر كيف لقيت عائلة بأكملها حتفها الشهر الماضي عندما أصاب صاروخ شارعا رئيسيا أمام مستشفى. قبر آخر ملفوف بالعلم العراقي هو لمقاتل عشائري قتله داعش في اشتباكات على الجانب الآخر من نهر دجلة، وابنته مدفونة بجانبه، بعد مقتلها عندما اصطدمت قدمها بلغم زرعه المسلحون في حقل. بينما تشتعل حقول النفط في الأفق، وحيث ترتفع أعمدة الدخان، قال طلاب إن زياراته للمقبرة تملأه بالحزن والسلام في آن واحد. فأحباؤه غادروا، لكن شواهد القبور التي تشهد على حياتهم يمكن إصلاحها. وقال نحن ننتظر فقط تحسن الأوضاع، ثم سنصلحها كلها. إنه مكان يذكرك بمن جاءوا قبلك وما تركوه وراءهم.
مشاركة :