في زمن سابق، كان من المستطاع الحديث عن المسار العلمي للعالِم السوري- الأميركي عمر سرّي (مولود في دمشق، 1947)، بوصفه نموذجاً عن علاقة الطفولة وشغفها وخيالها، مع إنجازات العلم وابتكاراته. ولكن، للزمان آلامه ونوازله وكوارثه. ومع سقوط الوطن السوري وشعبه في محنة الحروب الضارية التي تلتهم الأرض والإنسان والمجتمع والثقافة والعمران، لم يعد ممكناً سرد ذلك الحديث الوادع عن الطفولة والعلم، فيما العيون تمتلئ بدموع لا تكف، والأجساد يستنزفها موت مستفظع. وبمطالعة السيرة الذاتيّة لسرّي، تبرز صور الطفل الدمشقي الذي يصارع آلام الحياة مبكّراً. ربما لم يخطر لقدميه الغضتين وهما تتنقلان في حارات دمشق وشوارعها، أن خراباً ما سيأتي ليغيّر كل ما تألفه عينا ذلك الطفل. لم يكن تنقله بين أحياء دمشق مجرد معابثة للوقت، ولا مطاردة لمتع صغيرة أو كبيرة، إذ قست الحياة مبكّراً على سرّي، فحرم من الوالد المعيل والسند لأسرته الدمشقيّة، قبل أن يتجاوز الطفل سنيه العشر الأولى. وقفزاً في برق الزمن، من المستطاع ذكر أن الأم في تلك الأسرة السوريّة، صمدت أمام تلك النازلة وغيرها، لكن يد الحرب الأخيرة في سوريّة لم ترحمها. وقضت الأم في تلك الحرب، كأنها تلخص أمثولة من أمكنهم الصمود أمام عوادي الزمن بأنواعها، لكنهم لم يملكوا رداً لغائلة الحرب المدمّرة التي تجتاح البلاد التي احتضنت تألّقات مذهلة في خط الحضارات الممتدة لا تبدأ بالكنعانيين والفينيقيين، ولا تنتهي عند العصور الذهبيّة للحضارة العربيّة- الإسلاميّة. عند وفاته، ترك الوالد أسرة من 7 أطفال بينهم من سيكبر ليصبِح العالِم عمر سرّي، بعهدة الأم الحانية. وعندما غابت الأم، بقي الإصرار الذي راكمته بصبر في حياتها عبر بقاء معظم تلك الأسرة في دمشق، على رغم أنف الحروب والطائرات والمدافع. وفي مسار مألوف سوريّاً وعربيّاً، تبدي عائلات الطبقة المتوسطة اهتماماً هائلاً بتعليم أبنائها، بل أنها تعقد رهانها الأول والأخير على قدرة الأبناء على التقدّم في مسارات العلوم والحرف والمهن، علها تستطيع تثبيت الأسرة وأفرادها في وجه رياح الزمن. ويشير العالِم سرّي إلى أن كلا أبويه لم ينل من التعليم قسطاً يتجاوز المرحلة الإعداديّة المتوسطة، لكنهما كانا يشدّان الأهداب والأسنان على إصرارهما على المضي بتعليم الأبناء كلهم، ذكوراً وإناثاً. وفي ألق ذلك الإصرار، أُرسِلَ عمر سري إلى مدرسة «الليسيه الفرنسيّة- العربيّة»، وهي اشتهرت أيضاً باسم «الكليّة اللائكيّة الفرنسيّة» باعتبارها جزءاً من سلسلة مدارس تحمل تلك التسميّة في فرنسا وبلدان الفرنكوفونيّة. ويصف سرّي تلك المدرسة بأنّها «تمتّعت بمستوى تعليمي راقٍ في كل صفوفها، بداية من المرحلة الابتدائيّة ووصولاً إلى المرحلة الثانويّة». وفي أزمنة أقل احتداماً ولو نسبيّاً، أعطت «الكليّة اللائكيّة الفرنسيّة» لسرّي فرصة لتلاقح الحضارات، بل فتحت له نافذة مزدوجة «للتواصل مع الثقافتين الفرنسيّة والعربيّة السوريّة»، وفق كلماته. ما الذي بقي في مخيال ذاكرة سرّي من زمن ذلك التلاقح بين حضارتين؟ «وفق ما تستطيع ذاكرتي استعادته، أحسست بانجذاب كبير إلى نظريّة العالِم الإنكليزي الشهير تشارلز داروين (1809- 1882) عن تطوّر الأنواع الحيّة. درست ملامح تلك النظرية أثناء المرحلة الثانويّة في «الكليّة اللائكيّة الفرنسيّة». وشكّلت نظرية التطوّر أحد الملامح المبكّرة في شغفي بالعلوم وميلي لها. وأثناء مراهقتي، حدث منعطف آخر زاد من تعلّقي بالعلوم واندفاعي لدراساتها، خصوصاً تلك التي تتصل بالكائن البشري، إذ أصيبت إحدى شقيقاتي بمرض عضال هدّد حياتها. وأعتقد أنني عقدت العزم على أن أصبح طبيباً منذ تلك الحادثة». الهجرة إلى باريس الأرجح أن إنهاء المرحلة الثانويّة بتفوّق من «الكليّة اللائكيّة الفرنسيّة»، فتح أمام سرّي باباً مهماً للوصول إلى المراكز العلميّة المتألقّة في الغرب، إذ لم يكن تجاوز سن الـ17 عندما سافر وحيداً إلى باريس. وعند تلك الخطوة، دخل سرّي في حلقة لم يخرج منها إلى اليوم، وهي العمل لأجل تَعَلّم العلم، والحصول على العلم الذي يوصل إلى مزيد من العمل. وحقّق سرّي حلماً مبكراً، بأن شرع في دراسة الطب في فرنسا، التي أنجز فيها المراحل الأولى من دراساته الأكاديميّة المختصّة. وعلى رغم القفزة الكبرى بين دمشق وباريس، لم يجد سرّي صعوبة في التأقلم مع «مدينة الأنوار»، ربما بأثر من دراسته في «الكليّة اللائكيّة الفرنسيّة». ويظهر ذلك بوضوح في أنّه كان متمكّناً من اللغة الفرنسيّة عند وصوله إلى باريس، فلم يواجه مشقة في التعامل مع تفاصيل الحياة فيها. ونجح في الحصول على شهادته الأولى في الطب، بمعنى أنّه تخرّج طبيباً في باريس. وإذ عقد العزم على دراسة الغدد الصمّ (وهي مجموعة من الغدد تتميّز بأنها تفرز هرموناتها مباشرة إلى الدم، وتؤثّر في وظائف الجسم كافة)، قرّر الانتقال إلى كندا التي تربطها وشائج الفرنكوفونيّة مع فرنسا. «تمتّعت الجامعات الكنديّة بشهرة واسعة في شأن تقدّمها في علوم الغدد الصمّ. وضعت نصب عيني أن أتخصّص هناك. وفي زمن لم يزد على 5 سنوات، تمكّنت من الحصول على شهادة الدكتوراه في علوم الغدد الصمّ، من جامعة مونتريال في كندا»، يقول سرّي. وفي مسار مألوف، يشير سرّي إلى أن الدكتوراه تمثّل حدّاً فاصلاً بين العلوم المتعلقّة بنيل شهادات أكاديميّة من جهة، والتقدّم في العلوم المتّصل بالبحوث المتقدّمة من الناحية الثانية. «القائد الأعلى» للهرمونات في مونتريال، تابع سرّي بحوثه في الغدّد الصم وعلاقتها بتمثّل الغذاء في الجسم. «فتنتني الدراسات المختصة في حقل العلاقة بين هرمونات الغدد الصمّ من جهة، والجهاز العصبي للإنسان من الجهة الأخرى. صار ذلك هو مجال تخصّصي ودراساتي وبحوثي، ولاحقاً، صار مجال خبرتي علميّاً وأكاديميّاً أيضاً. وبصورة خاصة، شُغِفَت بالغدّة النخاميّة». و»النخاميّة» («بتويتاري» Pituitary) غدّة صغيرة الحجم في قاع الدماغ، تؤدي أدواراً متنوّعة وحاسمة في هرمونات الجسم، خصوصاً تلك التي تؤثّر في عمل الدماغ نفسه. وتؤدّي تلك الغدّة أيضاً دور القائد الأعلى لمجموعة من الغدد الصمّ كالمبيض والخصية والغدة الدرقيّة وغيرها. وانجذب سرّي إلى دراسة الأورام التي تصيب الغدّة النخاميّة، بل وضع أطروحة عن أحوال مساحات في الغدّة النخاميّة تتعامل مع هرمون محدّد هو الـ«دوبامين» Dopamine. ويوصف الـ«دوبامين» أيضاً بأنه «هرمون اللذة والحب»، كما يرتبط بأمراض نفسيّة - عصبيّة كالـ«شيزوفرينيا» Schizophrenia والكآبة المرضيّة. واهتمّ سرّي بدراسة تأثير الـ«دوبامين» على الأورام التي تصيب الغدّة النخاميّة نفسها، مبرهناً أنه يستطيع وقف نمو تلك الأورام وإعادة تلك الغدة إلى حالها الطبيعية. ويشير سرّي إلى أن إنجازه الأهم تمثّل في البرهنة على أن الجراحة تفشل غالباً في شفاء أورام النخاميّة، بل ربما عقّدت أوضاعها أحياناً. وفي المقابل، تستطيع المعالجة الهرمونيّة أن تسيطر على نمو تلك الأورام، وتحسّن حال المصاب بها. وبالاسترجاع، استهل سرّي مساره الأكاديمي المتقدّم في «جامعة مونتريال» بأن عمل أستاذاً مساعداً فيها في 1980، ثم ترقى إلى رتبة أستاذ مشارك، ثم صار أستاذاً أكاديميّاً مكرّساً منذ 1996. وأثناء ذلك التدرّج العلمي الأكاديمي، تلقّى سرّي منحاً علميّة لبحوثه من «مجلس البحوث الطبيّة» في كندا الذي كرّمه بمنحة مولّت بحوثه على مدار 4 سنوات. ونال منحة سخيّة من «صندوق كيبيك للبحث العلمي»، موّلت بحوثة لست سنوات. وامتدت له يد المساعدة الماليّة أيضاً من صناعة الأدويّة التي تدعم مشاريع البحّاثة. في خضم ذلك المسار عينه، نشر سرّي ما يزيد على 95 مقالاً علميّاً نشرت في مجلات مرجعيّة، على غرار «مجلة نيوإنغلاند للطب»، و»مجلة الرابطة الطبيّة الأميركيّة» وغيرهما. ووضع سرّي فصولاً في كتب مرجعيّة عن علوم الغدد الصمّ، إضافة إلى مساهمته في ما يزيد على 75 مؤتمراً علميّاً. ويـــــشير سرّي إلى أن نهاية 2016 ستشــهد وصوله إلى التقاعد. وليس له من أمل سوى رؤية السلام يعــــود إلى ديـــاره في الوطن السوري، محمّلاً بالكرامة والحريّة. وبكل حرقة وأصالة، يورد سرّي أنّ أشد ما يخشاه هو «أن يأتي يوم أقول فيه «كانت هناك سوريّة، وكان هناك بلد هو وطني».
مشاركة :