في بداية ستينات القرن العشرين قصد الدكتور محمد مندور مدينة الأقصر في زيارة أراد منها التعرف على ما تتضمنه المدينة من كنوز أثرية تعطي فكرة عن عظمة ورقي الحضارة الفرعونية. كان مندور محظوظاً حين تولى أستاذ مطلع على التاريخ الفرعوني ومتخصص فيه، اسمه الدكتور حسن صبحي، على نحو ما ذكر مندور في مقال نشره بجريدة الجمهورية يومها، وكان يشغل منصب مفتش عام للآثار في المنطقة، تولى الشرح التفصيلي لأهمية المواقع التي زارها مندور، ما حمله على القول إن زيارة مثل هذه لا تؤتي ثمارها الحقة إلا بمصاحبة دارسين متخصصين يحبون عملهم ويتحمسون له ويتذوقون الفن ويتعمقون في المعاني الإنسانية والروحية التي تكمن وراءها. استوقفت الدكتور مندور في تلك الجولة السياحية المعابد وما فيها من غابات الأعمدة الضخمة التي تدهش العقل، وضخامة التماثيل التي نحتها الفراعنة، ويقول إنه شاهد هناك تمثالاً محطماً لرمسيس الثاني خيل له أن الكتلة التي يتكون منها الرأس وحده تكفي لبناء بيت. لكنه عبر عن خشيته من أن يأخذنا الانبهار بهذا الجبروت إلى أن نغفل عن النقوش البارزة والغائرة المرسومة على جدران المعابد وأعمدتها، والتي صوّر فيها الفراعنة معتقداتهم الروحية ونظرتهم إلى الحياة، بما فيها الحياة بعد الموت. في هذه النقوش يبرز شغف المصريين القدماء بحب الحياة والتعلق بها وتذوقها، وهو ما كان دافعهم إلى نحت التماثيل لملوكهم وهم في نضارة الشباب دائماً، وثمة نقوش تظهر تعميد الآلهة للفراعنة بالماء المقدس كي يعودوا إلى مطلع الشباب النضير وكان هذا التعميد يتجدد كل سنة كي تتجدد النضارة. شعور مثل هذا بمحبة الحياة والتعلق بها كان في أساس الإحساس بالتفاؤل الدائم وتشييد ذلك العمران المبهر الذي قاوم الزمن ولا يزال، ولو أن ما هيمن عليهم يومها كان شعوراً يفيض بالتشاؤم وعبثية الحياة لما كانوا بنوا حضارةً ولما تركوا أثراً، بما فيها تلك الآثار التي تظهر ولعاً بالفنون والجمال. نسوق هذا الكلام لنعقد مقارنة بين عمق ورهافة هذه الحضارة، وبين ما يريده لنا اليوم ماقتو قيم الجمال والمحبة والفنون، على النحو الذي أشرنا إليه في مقال الأمس، حين نجد من يطالب بأن تقوم المدارس بمنع تدريس الموسيقى تارة، والفلسفة تارة أخرى، والرسم وكافة الفنون البصرية تارة ثالثة. التنشئة على كراهية ما في الحياة من جمال تخلق أفراداً مشبعين بالتعصب والانغلاق والعنف الكامن الذي قد يفصح عن نفسه بأبشع الصور دموية، والانصراف عن الانخراط في الحياة والتنمية، نحو فرض الصرامة والتجهم، فيما التنشئة النقيضة تخلق أفراداً مفعمين بالحياة والأمل والعطاء. د. حسن مدن dr.h.madan@hotmail.com
مشاركة :