بينما تحتدم المعارك في الموصل لتحريرها من عصابات "تنظيم الدولة"، مسببة تزايداً سريعاً في أعداد المشردين، وتتواصل الأزمة الحكومية من دون حل في الأفق، تمكنت قوى التشدد الإسلامي في البرلمان من تمرير قانون خلافي يضطهد شرائح دينية وثقافية واسعة في المجتمع العراقي. وعلى رغم أن البرلمان لم يستعجل سن القوانين يوماً، فقد بقي قانون الأحزاب على رفوفه سنين عدة قبل صدوره، وما زال قانون النفط والغاز على الرف على رغم مرور عشر سنوات على إرساله إلى البرلمان. ولم يُجِز البرلمان حتى قانون الموازنة لعام 2014 على رغم أن الدستور نص في المادة 57 على عدم انفضاض البرلمان من دون إقرار الموازنة، وبقيت الدولة تعمل من دون موازنة عاماً كاملاً. القوانين الوحيدة التي تمرر بسهولة ومن دون اعتراض يذكر هي قوانين امتيازات أعضاء البرلمان وحقوقهم التقاعدية. لكن قانون حظر انتاج وبيع واستيراد المشروبات الكحولية، التي يضطلع بإنتاجها واستيرادها المسيحيون حصراً، قد أُعد وأُقر بهدوء وسرعة لافتة حتى أن نواباً كثيرين لم ينتبهوا إلى فقرة الحظر التي أضيفت في اللحظات الأخيرة على مشروع قانون الخدمات، الذي كان يتضمن أصلاً فرض الضرائب على المشروبات الكحولية من أجل تنظيم هذه التجارة وتعزيز موارد الدولة. وما كان القانون ليمر لولا تواطؤ رئيس البرلمان، سليم الجبوري، وتقاعس النواب عن أداء واجبهم في متابعة القوانين والحرص على مصالح ناخبيهم. يتوهم البعض بأن التوقيت خاطئ. لقد كان مناسباً جداً للمتشددين، سنّة وشيعة، لأن البلد كله منشغل بالحرب على الإرهاب واحتمالات ما قد يحصل للمدنيين أثناء تحرير الموصل، وهذا الانشغال يسمح بتمرير أي قانون خلافي إذ ستكون الاحتجاجات عليه في حدها الأدنى. لا يهُم المتشددين إن كان القانون مخالفاً للدستور، وفق المادة 2، التي تنص على عدم إقرار أي قانون يتعارض مع مبادئ الديموقراطية، أو حقوق الإنسان أو حقوق الأقليات، وليس مهماً أنه يؤثر على موقع العراق كدولة ديموقراطية متنوعة السكان وذات قيمة آثارية وسياحية عالمية. الأهم بالنسبة إلى المتشددين هو فرض أهوائهم وإذلال خصومهم كي يذعنوا "صاغرين" لقوانينهم وتفسيراتهم للنصوص الدينية. لا وجود لدولة المواطنة العصرية الديموقراطية في عقيدتهم لأن هدفهم هو إقامة دولة تخضع لسلطانهم وتدار وفق القوانين التي تروق لهم. لم تُعِر حركة طالبان اهتماماً للرأي العالمي عندما قررت إزالة تماثيل بوذا التي اعتبرتها مخالفة للشريعة الإسلامية، بل أعدت عدتها ومدافعها وهبَّت إلى جبال باميان النائية واقتلعت التماثيل القائمة هناك منذ 2500 عام من جذورها. ولم يهتم "داعش" للاستنكار والشجب العالميين عند سبيه النساء الإيزيديات وبيعهن في أسواق النخاسة أو إذلاله المسيحيين ومصادرته أملاكهم في الموصل، بل أقدم ونفذ ما في عقول قادته من عُقَد وضغائن. ولم تهتم "بوكو حرام" للاحتجاجات العالمية حول أفعالها الشنيعة بحق النساء ومخالفيها لأنها موقنة أنها تطبق قوانين مقدسة لا تقبل الجدل. لا مكان للآخر في نظر المتشددين، وعلى الناس جميعاً أن يطيعوهم كي يأمنوا على أرواحهم وممتلكاتهم. يبدو أن العراق يسير في هذا الاتجاه. فلا يهُم "نواب الشعب" أن تُلغى حقوق الآخرين من مسيحيين وإيزيديين وصابئة ومسلمين يعيشون عصرهم وشبان يحبون الحياة، أو تقطع أرزاقُهم ويتغير نمطُ حياتِهم، فهؤلاء ليست لهم حقوق وفق النصوص التي يؤمن بها المتزمتون وينسبونها إلى الدين. ينسى المتطرفون أن أفكارهم وأهواءهم تتعارض مع الأسس التي تقوم عليها الحياة العصرية لذلك فهي غير قابلة للبقاء، وأن المجتمع الدولي القائم على القانون والحريات والتسامح، أقوى منهم وسيكتسحهم بطرق شتى منها الحصار أو المقاطعة أو القوة العسكرية كما حصل مع طالبان ويحصل مع داعش حالياً. محاولات إلغاء التعددية في العراق لم تنجح عبر العصور، بل بقي العراق بلد التنوع القومي والديني والثقافي. والتعددية هي إحدى الصفات المتأصلة في المجتمعات المعاصرة، إلى جانب رفض الاضطهاد والسعي نحو العدالة. لم يعد ممكناً فرض دين أو مذهب أو أي فكرة فلسفية أو دينية على المجتمع من دون ممارسة القمع والاضطهاد وهذا ما ترفضه المجتمعات الحديثة وتتوحد في محاربته. وللإنصاف يجب القول إن متدينين ورجال دين كثيرين في العراق يؤمنون بالديموقراطية والحريات الشخصية، وقد عبروا عن رفضهم لتشريع هذا القانون علناً. إن تمرير القانون المذكور يهدف إلى إلغاء التعددية في المجتمع العراقي وفرض رأي فئة معينة على باقي الناس بالقوة. وسيحتاج تطبيقه إلى تسخير أجهزة الدولة لملاحقة المخالفين وإحالتهم إلى المحاكم وإشغالها بقضايا شخصية، بدلاً من مكافحة الجرائم الحقيقية من إرهاب وسرقة وفساد وخطف وابتزاز وتهريب وكلها منتشرة في العراق. وإلى جانب كون القانون يجرِّد الدولة من مورد مهم، ويضعف الحركة السياحية في بلد يضم أهم المواقع الأثرية العالمية، من الجنائن المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، إلى آثار بابل وأوروك وأور وكيش وآشور ونُفَّر والحضر، إلى المعابد والكنائس والمساجد والمراقد والمواقع الأثرية القائمة منذ آلاف السنين، فإنه يضطهد المسيحيين الذين يعملون في تجارة المشروبات وبيعها منذ القدم، لأنهم الوحيدون المرخص لهم قانوناً العمل في هذا المجال. ممثلو المسيحيين في مؤسسات الدولة والبرلمان، لم يتمكنوا من حماية حقوق هذه الشريحة التي ينتمون إليها أو تحقيق أي مكسب لها، ولم ترتفع أصواتهم بالحفاظ على حقوقها. الحركات المتطرفة ترفض وجود الآخر وتلغيه كلياً لأنها تؤمن بأنها وحدها تمتلك الحقيقة وحق تفسير النصوص الدينية، ويكمن الخطر الأكبر في أنها مستعدة لفرض أهوائها بقوة السلاح. لو كان المسيحيون، وعددهم يتجاوز المليون، والعلمانيون، وعددهم بالملايين، يمتلكون ميليشيات تدافع عنهم لما شُرِّع مثل هذا القانون الذي يحتقرهم ويضطهدهم ويدمرهم اقتصادياً ومعنوياً. تشريع هذا القانون هو بداية الحرب على أهم أسس النظام الديموقراطي وهو الحريات العامة، وهو أيضاً حرب على المسيحيين والصابئة والإيزيديين والمسلمين العلمانيين وكل الذين يؤمنون بدولة ديموقراطية متصالحة وهم غالبية السكان. إن لم يتوحد هؤلاء ويتخذوا ما يلزم للحفاظ على حقوقهم والإبقاء على التنوع في العراق فإن حريتهم وكرامتهم وأنماط حياتهم مهددة. نظام الغالبية الفئوية الحالي يضطهد الغالبية السكانية ويخالف المبادئ الأساسية للعدالة والديموقراطية، ومن الضروري مغادرته قبل فوات الأوان. * كاتب عراقي
مشاركة :