يسعى الناقد الألماني راؤول إيشلمان في كتابه "نهاية ما بعد الحداثة .. مقالات في الأدائية"، إلى كشف الأطر التي تقوم عليها نظريته العامة الموسومة بـ "الأدائية" وتطبيقاتها في الأدب والسينما والفن بوصفها إحدى نظريات ما بعد الحداثة، لذا فإن الكتاب ليس كتابا نظريا بحتا بل نظريا تطبيقيا، فهو يحلل ويناقش ويقرأ الأعمال الروائية والسينمائية والفنية التشكيلية، ويشرع في ذلك بدءا من مقدمته للكتاب الصادر عن دار أروقة للنشر والترجمة، ومن ترجمة الناقدة الفلسطينية أماني أبورحمة، حيث ينطلق راصدا المراحل التي قطعها وبلور من خلالها هذا المصطلح، ومقاصده عندما فكر بوسمه. تعود القصة كما يشير إيشلمان إلى منتصف التسعينيات، عندما كان سلافيا مهتما بقضايا التحقيب في الأدب الروسي والتشيكي، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالحداثية وما بعد الحداثية. وفي عام 1996، وضع كتابا يحاول شرح كيف بدأت ما بعد الحداثة في الاتحاد السوفيتي. ويقول "كنت أعلم أنه إذا ما بدأت الحقب فإنها ستنتهي لا محالة، ومن هنا بدأت أبحث عن علامات النهايات في الأدب الروسي. لاحظت على الفور أن أعمال الكاتب الروسي المعاصر الشهير، فيكتور بيلفين، تحيد عن قواعد ما بعد الحداثة غير المكتوبة. وبيلفين الذي يمكننا أن نقول عنه إنه روسي بوذي ، يقوم بأمرين: الأول، هو أنه يكتب قصصا يصل فيها الأبطال إلى مرحلة التجاوز والتعالي على العالم المادي. وثانيًا أنه يكتب قصصا تخدع القارئ بجعله يتخذ مواقف بوذية نحو العالم سواء أراد ذلك أم لم يرد. وبسبب هذه الحيل فإن القارئ يعتقد أن بيلفين يسخر منه على غرار التهكم الساخر أو المفارقة ما بعد الحداثية. تبدو أعمال بيلفين غريبة وغير مكررة، ولهذا فقد تبادر إلى ذهني أن هذا النوع من الكتابة مقتصر على ظروف خاصة في روسيا، ولكن هذا الافتراض تغير جذريا عندما شاهدت فيلم "الجمال الأميركي"، الذي عرض عام 1999، هنا وجدت الحيلة ذاتها ولكن هذه المرة في أميركا. لقد مات البطل وتجاوز العالم الذي أصبح يعتبره جميلًا؛ وفي النهاية، وبعد وفاته، قال لنا إننا أيضا سنراه جميلا عندما نموت. فالاستراتيجية السردية هي حيلة أو مصيدة تقترح أننا لا يمكن أن نصل إلى المعرفة أو الحقيقة إلا من خلال التعالي، عكس الطريقة النقدية الموظفة في ما بعد الحداثة. وهكذا فقد أصبح لدي دليل على أنني أتعامل مع ظاهرة عبرت الحدود الوطنية، وسرعان ما وجدت المزيد من الأمثلة في اشتغالات سردية أخرى وبلغات أوروبية مختلفة". ويضيف "ترتبط ما بعد الحداثة بشكل وثيق جدا مع ما بعد البنيوية، وهذا يعني ارتباطها بكتابات المفكرين الفرنسيين اللامعين: لاكان، ودريدا، وفوكو، ودولوز، وليونارد وأتباعهم الكثر. وتعد نظريات ما بعد البنيوية معقدة للغاية في واقع الأمر، بل إنها تتناقض مع بعضها البعض في الحجج الفردية في كثير من الأحيان، ولكنها جميعا تشترك في الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء. وللتبسيط، فإن هذا الافتراض هو أنه لا توجد علاقة طبيعية موحدة بين الأشياء والعلامات، تعين العلامات للأشياء بطريقة مصطنعة وبعد وقوعها في الخطاب، أي في اللغة الموظفة في الحالات الاجتماعية المحددة لتحقيق أهداف معينة. وهكذا فإن العلاقة بين العلامة والشيء في التوظيف اللغوي تعبير غير مباشر عن العلاقات السلطوية داخل المجتمع. يرى ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين أن مهمتهم الأساسية هي توضيح تلك العلاقات السلطوية، والتي تظهر للقراء غير الممحصين بوصفها أمرا بديهيًا طبيعيًا. وعلى عكس الفنانين والمثقفين الحداثيين، الذين أصروا على أهداف طوباوية أوصلتهم إلى كوارث شمولية، انحاز ما بعد الحداثيين إلى السخرية بوصفها أداتهم الجدلية الرئيسية، وكانت استراتيجيتهم هي انتقاد وتقويض علاقات السلطة القائمة دون أخذ مواقف أيديولوجية واضحة تعارض تلك العلاقات. بدأت المواقف التهكمية في الستينيات، وبحلول التسعينيات اعتمدت تلك المواقف بطريقة أو بأخرى وعلى نطاق واسع من قبل الأكاديميين والكتاب وصناع السينما والفنانين. ولكن مع نهاية التسعينيات أصبحت تلك المواقف مبتذلة ومتوقعة. وتزايد الاعتقاد بأن ما بعد الحداثة في طريقها نحو الأفول، وكان السؤال المطروح بقوة هو: ما الذي يمكن أن يحل محلها؟ كان واضحا بالنسبة لي أنه إذا ما كانت هناك ردة فعل تاريخية على ما بعد الحداثة، فلا بد أن تكون ضد التهكم أولا، وثانيا أن توظف نوعا من العلامة بحيث يتحقق نوعٌ من الوحدة بين العلامات والأشياء، ولكن كيف يمكن وصف هذه الوحدة؟ أظهرت نظرية ما بعد البنيوية أن جميع المفاهيم التقليدية عن العلامة الموحدة هي محض أوهام تعتمد في نهاية المطاف على علاقات القوة المدرجة في اللغة. وكنت بحاجة إلى نظرية موحدة "أو واحدية" عن العلامة بطريقة ما، والتي من شأنها أن تعكس الاتجاهات الثقافية نحو الوحدة وضد السخرية وتراوغ على نحو ما نقد ما بعد البنيوية للعلامة". هنا فكر إيشلمان في وضع نظرية بنفسه ولكن ذلك لم يتحقق، بل إن الحقيقة هي أن كل محاولاته لابتكار نظرية واحدية لم تحقق الكثير. ويوضح "بدأت أبحث عن بدائل في أعمال نقاد آخرين ولكنني كنت سييء الحظ حتى عام 1998، عندما دعيت لمؤتمر عن المفارقة في الأدب الروسي. وفي قائمة المؤتمر كان هناك كتاب بعنوان (علامات المفارقة) لكاتب لم أسمع به من قبل، اسمه إيريك غانس، والذي غير مجرى حياتي المهنية الأكاديمية. واكتشفت بسرعة، أن غانس قد طور مفهوما واحديا عن العلامة منذ ما يقرب من عشرين عاما، وأن هذا المفهوم يعارض ما بعد البنيوية بصورة جذرية". يرى إيشلمان أن غانس يفترض أن السلوك الإنساني قبيل اللغة يستند إلى التقليد والمحاكاة، فاللغة، مع ذلك، هي التي تفصل الإنسان عن الحيوان. وبمعنى آخر، فإن توظيف اللغة هو ما يسمح لنا بتجاوز الحالة الحيوانية وأن نصبح بشرا على وجه التحديد. وإذا كان ذلك صحيحا، فإن اختراع اللغة، أو العلامة الأولى، يجب أن يكون حدثا متعاليا متجاوزا أو دينيا بالنسبة لأولئك الذين خبروه. ومن الواضح أنه لا توجد وسيلة لإعادة بناء هذا المشهد البدئي "إذ لا يوجد من يتذكره". ولذلك وضع غانس مشهدا افتراضيا، يفترض فيه وجود إنسانين بدئيين غير قادرين على الكلام، ويرنو كلاهما إلى شيء مرغوب "عظمة، وقطعة من طعام وما إلى ذلك". وعادة، إذا كان أحد هذين الإنسانين يمتلك شيئا وكان الآخر يريد أن يحاكي فعل الامتلاك هذا، فإن النتيجة هي صراع عنيف. ولكن، وكما يفترض غانس، إذا ما بعث أحدهما إشارة من نوع ما ترمز إلى الكائن المطلوب وتقترح أنهما ليسا بحاجة للاقتتال من أجله، وإذا ما تقبل الطرف الآخر العلامة، فإنه سيتم تأجيل الصراع في الوقت الحالي، والنتيجة هي وحدة مؤقتة بين العلامة والشيء والشخصين البدئيين. ويشير إلى أن العلامة البدئية أو العلامة الأولى التي أطلق عليها غانس "الإشارية" حققت ثلاثة أشياء دفعة واحدة: فقد هدأت وضعا خطيرا، وأسست لغة، وأسست دينا، لأن هذه العلامة قادمة من مصدر متعالٍ ومتجاوز خارج نطاق الخبرة الإنسانية. وهكذا فإن المشهد البدئي يحمل في طياته بُعدا سياسيا ولغويا والأهم بُعدا مقدسا تفتقر إليه ما بعد الحداثة. وبذلك فإن أصل اللغة لم يحدد بصراع سلطوي نقي، وإنما من خلال إبراز متبادل للإيمان بين البشر. وأدركت بسرعة أن النظرية لن تكون مفيدة بالنسبة لي بالمعنى الحرفي ـ فلن يكتب أحد قصصا عن صراع إنسان الكهف على عظمة أو عن العلامة الإشارية التي نادرا ما تحدث في اللغة اليومية. كما أدركت أن المشهد البدئي لغانس عكس ما الذي يحدث في الثقافة المعاصرة بطريقة تخطيطية. ومن هنا بدأت في جمع ملاحظاتي المبدئية عن ثيمة التجاوز، وعن الحمقى والبسطاء، والحيل والشرك السردي مع أفكار غانس. وفجأة، أصبحت لدي القدرة على شرح أشياء لم يكن باستطاعتي توضيحها من قبل. فأولا وجدت توازيا بين الطريقة التي تركب بها سرديات أعمال فنية معاصرة معينة وبين مشهد غانس البدئي وعلامته الإشارية. تتمركز تلك السرديات أحيانا حول مشهد بعلامات إشارية بسيطة تمارس فيها الشخصيات وحدة من نوع ما. وغالبا ما تظهر الشخصيات بسيطة أو غبية بسبب تأثرها أو خضوعها لذلك المشهد على وجه التحديد، أو ــ بدلا من ذلك ــ قد تكون هي سبب المشهد "ذلك أنها تشكل وحدة معه بطريقة أو بأخرى". ويتضح فيما بعد أن هذه الوحدة متناقضة: إنها تمنح الشخصيات مشهدا بسيطا من الكمال، ولكنها تقيدهم وتضيق عليهم بطرق معينة. وتبعا لذلك فإن هدف هذه السرديات هو تجاوز تلك التقيدات للسمو بالشخصية إلى مستوى أعلى. وأخيرا، وربما الأهم، هو أن تلك المشاهد تظهر من قبل العمل بوصفها كلا متكاملا في مستوى السرد الأعلى. وتوصلت إلى أن أطلق على النتيجة الإطار المزدوج. ويتألف هذا الإطار المزدوج، من إطار داخلي "مشهد بسيط موحد أو علامة ضمن القصة" وإطار خارجي "تركيب سردي يؤكد الإطار الداخلي". والإطار الداخلي مغلق ودائري أما الإطار الخارجي فإنه يؤكد منطق الإطار الداخلي الذي يؤكد بدوره منطق الإطار الخارجي. والنتيجة هي شرك أو مصيدة لا يمكن للقارئ أو المشاهد أن يهرب منها بل إنه يجبر على قبولها والإيمان بها شاء أم أبى. ويقول إيشلمان إنه بعد أن وضع مفهوم الإطار المزدوج، شعر أنه امتلك نظرية عملية، وكان عليه أن يعثر على مصطلح شائع بالفعل ومن ثم تكيفه لأغراض نظريته، وهذا المصطلح كان الأدائية performatism، فالأداء "performance" موظف في نظريات عديدة أشهرها في اللغة، والنقد النسوي، ودراسات المسرح. وعلى الرغم من أن الأداء متضمن في الأدائية، بمعنى أنه ما زال هناك خلط في التوظيفات، فإن المصطلح يحمل خصائصه المميزة". والأداء كما يفهمه إيشلمان يشير إلى فعل التجاوز الذي هو في لب جميع التراكيب السردية بعد ما بعد الحداثية، وفعل التجاوز هذا يأخذ بالضرورة شكل الحدث أو الواقعة المدهشة، كما أنه يؤكد أيضا حقيقة أن هذه الأفعال التجاوزية تتجلى لنا من خلال أداء باللاتينية performance. ويستطرد إيشلمان "يمكن تحديد الأدائية ببساطة بوصفها الحقبة التي ابتدأ فيها التنافس المباشر ـ أو الإزاحة ـ بين المفهوم الموحد للعلامة واستراتيجيات الغلق من ناحية، والمفهوم المتشظي للعلامة واستراتيجيات انتهاك الحدود المميز لـ "ما بعد الحداثة" من ناحية أخرى.. كانت النهاية أو الغلق الشكلي لأي عمل فني يُقوَّض باستمرار في ما بعد الحداثة بوساطة الأدوات السردية أو المرئية التي تخلق حالة متأصلة لا مفر منها من اللاقدرة على الحسم بخصوص "حالة الحقيقة" في بعض أجزاء العمل. وفيما يتعلق بفن العمارة فإن بناء ما بعد الحداثة يمكن أن يخلق تأثيره المعماري الفريد عندما يجاور بين الدوامة المعمارية ما بعد الحداثية والزاوية الحادة الحداثية بتهكم ليبين التزامه بكلا الأسلوبين، وفي الوقت ذاته تقويضهما والانقلاب عليهما وهو أسلوب مميز أيضا لـ "ما بعد الحداثة" تماما كما في القصة والرواية ما بعد الحداثية التي تعرض حبكتين متوازيتين جديرتين بالتصديق، ولكنهما تبقيان بلا حسم ضمن حدود الرواية. لن يساعدنا اللجوء إلى سلطة المؤلف العليا في حل هذه الورطة بسبب أن رغبة المؤلف في اللاحسم هي التي توجه العمل نحو اللاحسم والتشويش في المقام الأول: إنه يتعمد أن يعود بنا إلى الخلف من حيث انطلقنا، ولحل هذه الأحجية فإننا مضطرون للالتفات نحو سياق مفتوح خارج السيطرة". ويقول: "يسقط المؤلف والعمل والقارئ جميعا في هوة الإحالة إلى مرجعيات لا تمتلك نقطة محددة ثابتة أو هدفا أو مركزا. ويوجد لهذه الاستراتيجية مقابل نظري في تفكيك دريدا لفكرة كانط، التي تتعلق بمركز أو جوهر العمل المفترض. يرى دريدا أن أي حديث عن قيمة جمالية ذاتية يعتمد على كون تلك القيمة متحررة من السياق الخارجي المحيط بها بوساطة إطار ما. يبدو الإطار لأول وهلة ملحقا زخرفيا للوحة، يكشف عن نفسه بوصفه اشتغالا حاسما غير مقرر، إنه ذلك المكان الداخلي الخارجي حيث يلتقي النص والسياق بطريقة حاسمة لتركيب وترتيب العمل يستحيل تحديدها مسبقًا. ويمكننا أن نراهن على أن الادعاء بأن اللوحة أو النص أو البناء الموحد والمغلق سيسقط في الفخ ذاته. ومن خلال الإطار فإن الغلق المفترض للعمل يعتمد دائما على السياق من حوله، والذي لا يمكن أن يكون كلا متماسكا بأي حال من الأحوال. وتبعا لذلك فحتى لو تمكن مبدع العمل من ابتكار تأثير موحد بطريقة أو بأخرى، فإنه، ومن خلال الإطار مرة أخرى، يعتمد دائما وبالفعل على بعض جوانب السياق المحيط به. وبذلك فإن آفاق خلق جماليات مستقلة جديدة واحدية ستكون معدومة أيا كانت الزاوية التي ننظر للعمل من خلالها ـ على الأقل من وجهة نظر عقلية ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية المهيمنة". يذكر أن إيشلمان فيلسوف وناقد أدبي ومنظر ثقافي ألماني ـ أميركي من أصل سلافي، يُدِّرس حاليا الأدب المقارن في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ. محمد الحمامصي
مشاركة :