أن يزور جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى مصر فهذا أمر طبيعى واعتيادى فى العلاقات الدولية.. لكن أن تشتمل الزيارة على وصفة أو رؤية أو تصور أمريكى لانتخابات مصر النيابية فهذا هو غير الطبيعى وغير الاعتيادى وغير المقبول. وكم كنت أتمنى أن يكون أول تحفظ على دخول الإدارة الأمريكية على خط الانتخابات الداخلية المصرية صادرا عن الرئاسة والحكومة المصريتين، وعن تيار الأغلبية الذى رأيناه فى محطات عديدة يتحدث عن الاستقلالية والكرامة فى مواجهة إشارات الاستقواء بالخارج والتلويح باستدعاء مواقف دولية لحسم مسائل داخلية. غير أن التناقض ذاته لم تسلم منه رموز معارضة لطالما لمحت وصرحت بأنها ستدعو الأسرة الدولية لمساعدة المعارضة فى مواجهة النظام الحاكم، بل وطالبت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبى مرارا بالضغط على السلطة الحاكمة فى مواقف عديدة، وكل ذلك موثق ومدون على المواقع الإلكترونية، ومن ثم هى الأخرى تتعامل بمكيالين مع موضوع التدخل الدولى، فهو إيجابى ومنطقى من وجهة نظرها أحيانا، وسلبى وسيئ وغير أخلاقى فى أحيان ومواضع أخرى. وهو التناقض نفسه الذى تجده فى تعامل هذه الأطراف مع المؤسسة العسكرية، فمن مطالبات صارمة بإخراج الجيش من المشهد السياسى، وهتافات صاخبة ضد العسكر إلى استدعاءات وتوسلات لهذه المؤسسة كى تعود مجددا وتلعب دورا سياسيا ويشتط بعضهم لمطالبة الجيش بتولى مقاليد البلاد. وفى موضوع طلب وزير الخارجية الأمريكى من المعارضة المشاركة فى العملية الانتخابية وردود الأفعال العنيفة عليها وتبنى مواقف جهادية غريبة على أصحابها بشأنها، يلفت النظر أن الأصوات التى ارتفعت بالهتاف ضد التبعية وتدخل الأجنبى فى المسألة الوطنية المصرية، سكتت حين طالب الجنرال الهارب بولاية الأمم المتحدة على الشأن الانتخابى فى مصر، ولم نسمع أن أحدهم رأى فى هذه الدعوة الخرقاء مساسا بالسيادة والكرامة الوطنية. وفى هذا المناخ السياسى البائس تبدو مصر دولة عاطلة أو معطلة، تستمتع بحالة الفراغ دون رغبة جادة وحقيقية فى الفعل، فلا السلطة قادرة حتى هذه اللحظة على إطلاق مبادرة وطنية جامعة يلتف حولها الجميع، ولا المعارضة راغبة فى مغادرة هذه المساحة الصغيرة التى حشرت فيها نفسها مستمتعة بالكسل والجرى فى المكان دون خطوة واحدة للأمام، ودون إقناع أحد بجدارتها كبديل. وإجمالا يمكن القول إن مصر انحشرت فى نفق قلة الحيلة، فلا السلطة تقدم على خطوات وإجراءات تمنح الشارع أملا فى مستقبل أفضل، ولا المعارضة قادرة على قيادة هذا الشارع لإحداث تغيير حقيقى، بعد أن استنفدت كل محاولات إسقاط النظام أو إجباره على تغيير استراتيجياته وأدواته، وتفر من مواجهة لحظة امتحان الانتخابات كوسيلة أخرى ووحيدة فى هذه الظروف لصناعة التغيير. ويمكنك أن تأخذ حالة نقابة الصحفيين نموذجا لهذه الحالة من اليأس، فهاهى نقابة الرأى تعجز عن حشد أعضائها لإقامة انتخابات للنقيب ونصف عدد أعضاء مجلس النقابة، ولم يحضر الجمعية العمومية أمس أكثر من نصف العدد اللازم لاكتمال النصاب. ويبدو أن مصر قررت أن تعيش حياة افتراضية، إلكترونية وفضائية، هربا من مواجهة استحقاقات الواقع.. فأى مستقبل لوطن استمرأ هذه الحالة من إدمان الكلام وكراهية الفعل. *نقلا عن صحيفة الشروق المصرية. ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
مشاركة :