من قال إن الكثرة تغلب الشجاعة.. نسي أن يكمل حكمته: والفتنة تفرق الجماعة.. وحين تفترق.. يسهل أخذ الفرسان على غفلة.. واحداً تلو الآخر. تشتيت الحشود ذكاء ووعد بالهيمنة.. مهما كان عددهم.. ومهما كانت أفكارهم.. ومهما كانت قوتهم.. لأن سياسة قنابل الفتنة حين تُزرع فإنها تضرب على الأوتار الأكثر حساسية.. تلك المواضع التي تجعل البصير أعمى.. وتفتك بحكمة الحكيم.. وبها يتفلت حلم الحليم.. لأنها سياسة لمس الجراح والمساحات الرخوة.. وزعزعة المناطق الخفية التي يخاف عليها كل أحد.. كلٌ بحسب حاجته ورغباته وممتلكاته. على سبيل المثال: يمكنك أن تزلزل غير المتدين بحجة الدين نفسه والخوف على عقيدته.. ويمكنك أن تخيف التاجر على ماله.. والأم على ولدها.. باختصار حين تعرف ما يخاف الإنسان منه.. تستطيع ابتزازه.. وتخويفه.. وتشتيته.. وترويعه.. لأنها ثغرات إنسانية منها تستهلك طاقته.. وتدمر دفاعاته. ذاك على المستوى الفردي.. ويمكن تطبيقه على مستوى الدول.. إذا فهمت توجهات وأفكار شعبه.. ونزعاته ونزاعاته.. تدرك من أين يمكن أن تفرق جمعهم.. وكيف تقلبهم على بعضهم.. بمعنى أنك سوف تفهم كيف ترسم خطة تشتيت الحشود وتطبقها.. وحينها تضعف دفاعاتهم.. لأن كل حزب مشغول بهمه.. خائف على كيانه وملكه.. متوجس ممن حوله.. ولسوف يعيش وهم مؤامرة تحاك من الداخل.. وهكذا لن تجد أمامك صفاً مستوياً وثابتاً.. بل صفوف متناثرة.. ومتناحرة.. تفتك ببعضها.. ويكون زارع الشر مرتاحاً ومسترخياً.. لأنهم يقتلون بعضهم.. ويصارعون بعضهم.. ويتهمون بعضهم.. وهكذا دواليك إلى أن يكون الإجهاز عليهم أسهل وأقل جهداً. لكن حين تدرك الجماعة أنها بلا وطن يضمها ولو كان رصيفاً.. فلا وجود لأحلام شخصية.. ولا حزبية.. ولا طائفية.. ولا مستقبل.. ولا حياة.. ولا أي شيء.. عدا ذكرى على خارطة قديمة.. يقال فيها: ها هنا كانت دولة اسمها كذا.. وكان أهلها.. وكانت قوتها.. كلها أمجاد في زمن الــ كان. الشعب الذي لا يقهر.. الشعب الذي لا يمكن اختراقه.. الشعب الذي لا تستطيع فرقعات الفتنة أن تمر عليه.. هو الشعب الذي يستطيع أن يضع ملفات الاختلاف جانباً.. ويمضي في وجه العدو الحقيقي الجبان.. المتخفي خلف ستار الفتنة.. هو الشعب القادر على أن يقول أفراده: نعيش معاً أو نموت معاً.. نصعد معاً أو ننحدر معاً.. في الحياة معاً.. وفي الموت معاً.. من أجل الوطن ولا شيء سواه.. لنا ولمن سيكون بعدنا.. هو ثابت ونحن المتغير.. هو باقٍ ونحن الراحلون.. هو الأصل ونحن فروع يتبعها فروع. لذا سيكون صعباً على دولة الفتنة أن تجد حيلة جديدة.. فكلما ابتدعت واحدة.. زادتنا تماسكاً وفهماً وتعلقاً بالوطن.
مشاركة :