العقيدة التي يتبناها تنظيم «داعش» للبقاء على قيد الحياة، تستند إلى فكرة بسيطة، تتمثل في أنه عندما يتعرض للهزيمة في ساحة المعركة يترك وراءه دائماً بذور العودة للمكان نفسه الذي هزم فيه. وما إذا كانت عملية استعادة الموصل هي بداية النهاية لـ«داعش» أو بداية دورة جديدة له، فإن ذلك يتوقف إلى حد كبير على فهم هذه الحقيقة الأساسية. وقد يكون الفراغ الأمني والسياسي في الموصل البذور المحتملة، التي تساعد التنظيم في الانتعاش من جديد، وما لم تمهد الحكومة العراقية لوضع يسمح للطائفة السنية المحلية بملء هذا الفراغ، فإن دورة جديدة لـ«داعش» من المؤكد أن تبدأ. ويبدو ذلك مقبولاً إلى حد كبير من قبل المخططين العراقيين والأميركيين، المنخرطين بشكل مباشر في الجهود الرامية لطرد «داعش» من معقله في هذه المنطقة المميزة والأكثر ازدحاماً بالسكان. وتنص الاستراتيجية الحالية على ألا تقاتل الميليشيات الشيعية والكردية داخل المدينة، وهي وسيلة للحد من المخاوف المحلية بشأن الطموحات السياسية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من سيملأ هذا الفراغ؟ هل يمكن للحكومة في بغداد أن تدعم بديلاً سنياً كوسيلة لعزل «داعش»؟ حتى لو كانت لدى بغداد الرغبة والقدرة على القيام بذلك، فمن هذا البديل؟ وتعد الأجزاء الشمالية من العراق، التي تمتد من الأنبار إلى نينوى، صورة مصغرة للمشكلات التي ظلت تعاني منها البلاد طوال 10 سنوات. واستطاع «داعش» أن يخرج من الرماد في عام 2014، لكن البلاد اليوم متشظية بشكل ملحوظ أكثر مما كانت عليه الحال، عندما تم طرد المتطرفين من المراكز الحضرية في عام 2007. وانفتحت جروح غائرة على مدى العامين الماضيين، وظل العديد من أصحاب المصلحة الطائفية والعرقية والسياسية يتنافسون على النفوذ في هذه المنطقة بالذات من العراق. لكنْ هناك سبب للتفاؤل الحذر وسط هذا المشهد القاتم، فالمعركة من أجل تحرير الموصل تقودها حتى اللحظة القوات العراقية المهنية، مع أنها تضم الآلاف من المقاتلين السنة المحليين، الحريصين على استعادة مناطقهم من التنظيم. لكن للأسف ظهرت «تشظيات» جديدة منذ أن سيطر «داعش» على الموصل منذ أكثر من عامين. إلا أن بعض التغييرات التي حدثت تمثل فرصاً تاريخية في الوقت الراهن للحكومة في بغداد، لإعادة صياغة العقد الاجتماعي، بينما هناك معوقات أخرى لأي جهد يصب في هذا الاتجاه. وتتمثل هذه التشظيات أو الانقسامات السنية في البلاد إلى ثلاث فئات عريضة. تشمل الفئة الأولى الأشخاص المطلعين، الذين عملوا بشكل وثيق مع القوات الموالية للحكومة التي تقاتل «داعش» في مناطقهم، وهؤلاء يميلون إلى إعادة بناء منازلهم، ويرون بعض المزايا في وجود حكومي من شأنه أن يمنع عودة التنظيم. أما الفئة الثانية، فتضم السياسيين الذين يشكلون بالفعل جزءاً من الحكومة في بغداد، ولديهم نفوذ لا بأس به على مجتمعاتهم، لكن يعتقد البعض منهم ضرورة ممارسة ضغط من أجل التغيير، من خلال المشاركة السياسية. وتعتبر قدرة الساسة على ملء الفراغ في المناطق السنية هي الحد الأدنى، لكنهم غالباً ما نجدهم مشغولين في قتال بعضهم بعضاً، بدلاً من العمل معاً على مساعدة مجتمعاتهم. وتتشكل الفئة الثالثة من الرافضين السياسيين، الذين يرفضون النظام السياسي القائم بوصفه لا يحبذ السنة بطبيعته. ويرون أن الحكومة في بغداد أسيرة لدى إيران، والسبيل الوحيدة للخروج من هذا المأزق هو إصلاح السياسة العراقية. وينظرون إلى النفوذ الإيراني في البلاد بشك عميق. فعندما استولى «داعش» على أكثر من ثلث العراق في عام 2014، رحب بعض من هذه المجموعة بالتنظيم، إلا أن الكثير منهم راهن على التطوير من أجل عكس الوضع السياسي في البلاد إلى الأبد. قد لا يكون للرافضين تأثير مباشر في مجتمعاتهم، لكن لديهم القدرة على تقويض أي تدخل سياسي سني. وبالمثل، فإن العديد من السياسيين وقادة الميليشيات الشيعية يعتقدون أنه يجب إعفاء هؤلاء السنة من أي جهد توعوي، وحتى السياسيون في بغداد الذين دعوا إلى وضع حد للاستبداد والطائفية لدى رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، يشيرون إلى أن بغداد ليس لديها مكان لهؤلاء الأفراد، بعد أن خسروا الرهان. وقد يتفاقم الصراع بين الرافضين وبغداد، ما لم يتغير التفكير الحالي لكلا الجانبين، إلا أن القاسم المشترك بين الفئات السنية الثلاث هو الحكم المحلي، ومن المعتقد أن قدرة السنة على حكم مناطقهم ستزيل - مع مرور الوقت - الكثير من الركود السياسي في البلاد، حيث ساعدت سياسات المالكي، التي تعارض تمكين اللاعبين المحليين من حكم مناطقهم، بشكل مباشر على صعود «داعش» في عام 2014. ونجد اليوم أن الرهانات أعلى من ذي قبل، ولن يستطيع العراق أن يكسر دورة «داعش» وينهي هذه الدوامة، ما لم يتم استبدال الطريقة القديمة التي تبناها المالكي، مع وجود رغبة حقيقية في تعزيز السنة، لملء الفراغ في مدنهم. حسن حسن - زميل مشارك في «تشاتام هاوس»
مشاركة :