بيروت: رامي كفوري وأخيراً عزفت موسيقى الحرس الجمهوري لحن التعظيم.. فالنشيد الوطني احتفاء بوصول الرئيس الثالث عشر للبنان، بعد استقلاله، إلى قصر بعبدا، ومع إطلاق نافورة الماء التي تتوسط باحة القصر بالتزامن مع رفع العلم اللبناني على السارية الكبرى، عادت الذاكرة بالعماد(الجنرال) ميشال عون ستاً وعشرين سنة إلى الوراء. يومها اجتاحت الدبابات السورية القصر الرئاسي منهية ما سمّي آنذاك حالة العماد، الذي استطاع أن يستنهض رأياً عاماً واسعاً وعريضاً مؤيداً لسياسته وتطلعاته في بناء الدولة القوية، المحكومة بذهنية غير تقليدية، وذلك بعدما عهد إليه رئيس الجمهورية المنتهية ولايته في الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر 1988 الشيخ أمين الجميل رئاسة الحكومة الانتقالية لتعذر انتخاب رئيس جديد. الرئيس الثالث عشر للجمهورية عاد إلى قصر بعبدا في الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر 2016، بعدما أخرج منه بطلب من الرئيس الراحل إلياس الهراوي بذريعة تمرّده على الشرعية الدستورية، ورفضه اتفاق الطائف الذي أقرّه نواب لبنان في العام 1989، واستحال دستوراً فيما بعد. والمفارقة في هذه العودة أن العماد عون انتخب رئيساً تحت دستور الطائف، وبأكثرية نيابية لافتة تلتزم هذا الاتفاق. حوصر العماد عون سياسياً، وتسبب الحصار وانسداد الأفق بحربين كانت نتائجهما قاسية على لبنان عموماً والمسيحيين خصوصاً، وهما: حرب التحرير وحرب الإلغاء. الأولى في مواجهة القوات السورية، والثانية في مواجهة القوات اللبنانية، وما بين الحربين أنجزت تسوية الطائف التي رفضها العماد مستنداً إلى تأييد شعبي كبير. لكن تقاطع السياسات الدولية والإقليمية، والمصالح المحلية، أنضجت ظروف إطاحته، فكان الخروج المدوي في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1990)، من قصر بعبدا، لاجئاً إلى السفارة الفرنسية قبل أن ينتقل إلى ضاحية الهوت ميزون الباريسية، ليعود في العام 2005 على أثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري على حصان برتقالي حاصداً التأييد الشعبي في دورتي 2005 و 2009 النيابيتين، على الرغم من الحرب الشعواء التي شنت عليه، وتكتل حلفاء الأمس ضده، خصوصاً بعد توقيعه تفاهماً مع أحد الفرقاء السياسيين، لكن العماد عون تمكن من تشكيل أكبر تكتل نيابي مسيحي في تاريخ الندوة السياسية على مدى استحقاقين متتاليين. كان مقدراً للعماد عون أن يكون رئيساً للجمهورية في أيار/مايو 2008، لكن أحداث الداخل، وحدّة الاصطفاف السياسي وما رافقه من انقسام عمودي، أدى إلى توجه الأفرقاء اللبنانيين إلى الدوحة التي أنتجت تسوية حملت قائد الجيش يومذاك العماد ميشال سليمان إلى قصر بعبدا، وقانوناً انتخابياً هو نسخة شوهاء عن قانون 1960، حفظ الغلبة العددية لنواب الرابع عشر من آذار، مبقياً لنواب الثامن الثلث المعطل. حاولت قوى الرابع عشر من آذار تسويق مرشحين قريبين منها، وفي مقدمهم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وآخرون وسطيون، فواجهها حزب الله بترشيح العماد ميشال عون على قاعدة عون أو لا رئيس، موصداً الباب على أي تسوية، حتى أن الحزب أبلغ مراجعيه بصراحة مطلقة أن وصول رئيس التيار الوطني الحر إلى قصر بعبدا، هو الممر الإلزامي لعودة الرئيس سعد الدين الحريري إلى القصر الحكومي. على أن عملية الالتفاف التي حاول الرئيس الحريري تحقيقها بترشيح النائب سليمان فرنجية، وهو من صلب الثامن من آذار، أدت إلى إنضاج التسوية التي كان يعمل عليها منذ زمن طويل بين التيار والقوات اللبنانية والتي تجسدت باتفاق معراب والذي تلاه ترشيح الدكتور سمير جعجع للعماد ميشال عون إلى الرئاسة، ما أسقط في يد الرابع عشر من آذار خلط الأوراق. وبعد مخاض دولي - إقليمي - محلي، تداخلت فيه الاعتبارات البعيدة المدى، والراهنة، وبعدما ضاق هامش الحركة والتأثير لدى القوى الخارجية جاء ترشيح الحريري للعماد عون، ليضع حداً لكل التخبط الذي قام، وضيّق بوصلة الخيارات، الأمر الذي استفز رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي توجس من صفقة ما، فأعلن تمايزه من دون أن يعطل الانتخابات أو يضع العثرات في طريقها، في حين خضع رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط لما تقرر على طريقته البراغماتية بأسلوب الهيك وهيك. في الثانية عشرة ظهر الاثنين الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر 2016 اكتمل النصاب السياسي تحت قبة البرلمان بحضور 127 نائباً من أصل 127، وكان اللافت حضور النائبين عقاب صقر (الذي غادر لبنان بعيد نشوب الحرب في سوريا متنقلاً بين تركيا وبلجيكا لدعم المعارضة في وجه نظام الرئيس بشار الأسد)، وعصام صوايا (الموجود في الولايات المتحدة والذي سافر إليها بعد أيام قليلة من انتخابه عن المقعد الكاثوليكي في جزين في دورة العام 2009). كانت كل الحسابات تشير إلى فوز العماد ميشال عون من الدورة الأولى، بما يزيد على الستة والثمانين صوتاً (أي الثلثين اللذين يشترطهما الدستور اللبناني للفوز في هذه الدورة). وكان في التقديرات أن عون سيحصل على تسعين صوتاً، فيما أخذ التفاؤل ببعضهم إلى حد توقع حصوله على اثنين وتسعين. لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، إذ حصد في الدورة الأولى أربعة وثمانين صوتاً أي أقل بصوتين من الثلثين المطلوبين، ونال في الثانية ثلاثة وثمانين صوتاً كرّسته رئيساً بأكثرية مريحة، إذ يكفي أن ينال في هذه الدورة خمسة وستين صوتاً ليعتبر فائزاً فيما تخلّل العملية الانتخابية مزحة سمجة أو ربما ما يتعدى المزحة كانت سبباً في إطالة العملية، وإعادتها لمرتين بعدما أقدم أحد النواب على إيداع صندوق الاقتراع ظرفاً إضافياً زاد عدد الأوراق إلى مئة وثمان وعشرين أي بزيادة ورقة واحدة من العدد القانوني والفعلي، ما اضطر الرئيس بري إلى اتخاذ إجراء إداري حدّ من المناورة والتلاعب وأوقف هذا العبث. الرئيس الثالث عشر للجمهورية ما عساه يفعل في بلد متداع، مثقل بالمشكلات، تحوطه التحديات؟ وهل سيكون قادراً على تنفيذ خطة إنقاذية تضع لبنان في الموقع الذي يستحق؟ كثيرة هي الأفكار التي أوردها الرئيس الجديد في خطاب القسم، وهو تحدث من موقع المسؤولية التي تهادت إليه في انتخابات لا تشوبها شائبة من الناحية الدستورية. توجّه إلى اللبنانيين بلغة هادئة، تصالحية. على أن أهمّ ما لفت المراقبين هو تشديده على مبدأ الشراكة الوطنية لأنها قاعدة الاستقرار. كذلك كان اللافت تركيزه على ضرورة تنفيذ اتفاق الطائف بكل مندرجاته، وبصورة غير استنسابية وغير انتقائية، مشيراً إلى إمكان تطويره من خلال توافق وطني. إن خطاب القسم- على ما يقول القريبون من العماد عون- سيكون في صلب برنامج الحكم للمرحلة المقبلة، وسيكون هناك سعي لتضمينه في البيان الوزاري لحكومة العهد الأولى، لأنه يطرح عناوين تطاول كل لبنان وكل لبناني. وعلى أثر صدور بيان عن المديرية العامة لرئاسة الجمهورية بعيد وصول الرئيس الجديد إلى قصر بعبدا باعتبار حكومة الرئيس تمام سلام في وضعية تصريف الأعمال، بدأت المشاورات مع الكتل النيابية لتسمية رئيس جديد للحكومة أمس (الأربعاء) وتستمر اليوم الخميس، وبطبيعة الحال، فإن الرئيس سعد الدين الحريري سيكون المرشح الأبرز إن لم يكن الأوحد. هناك تحدي تشكيل الحكومة الجديدة وسط تنافس بين الكتل لحيازة التمثيل الوازن عدداً ونوعاً، خصوصاً الوزارات السيادية التي ستتقاسمها الكتل الرئيسية والطوائف الكبرى. لا شك أن مخاضاً سيسبق ولادة الحكومة يتجاوز توزيع الحقائب، ويتناول العناوين الخلافية التي سيتضمنها البيان الوزاري: سلاح المقاومة، العلاقة مع سوريا، قانون الانتخاب.
مشاركة :