كنتُ أقلب في يدي زجاجة عطرها الفارغة إلاّ من بقايا عبق استقر في ذاكرتي, وإلاّ فإنّ الزجاجة فارغة, جافة لكنها تتحدث, قلت لها في آخر مرة سكبت بين كفيها قطرات منها , ستبقين العطر وإن تبخّر.. في الشارع المفضي إلى ساحة الحَمَام, القريبة منا وهديله يصلنا حيث نبدأ, كانت تأخذني لتقول لي: شاهدي الناس تذر الحبوب للحَمَام, كيف تُـلقم صغارَها البذورَ, على أن لا تغفل عيناكِ, ولا انتباهكِ عن متى يطير الحمام إلى مداه, وكيف ينطلق سرباً لا يتخلّف عن بعضه, ومتى تختفي أقدام الناس!!,.. ثمة ما كانت تلمح إليه بهذا.. حتى جاء ذلك اليوم الذي كنتُ فيه إلى مقعد جانبي في مقهى» كافيه بلان», داخل سوق كبير متعدِّد الاتجاهات, والبوابات, الناس تمر أمامي في اتجاهات متباينة, وجدتها تختلف متسارعة أقدامُ تلك الرتل للمتحركين فوقها, فذهبت أتابع حركتها, بين ذهابٍ يميناً, ويساراً, إلى الأمام, وإلى الخلف, أقدامٌ تصعد سلالم كهربائية, وأقدامُ تتقاطع مشياً نحو اتجاهاتها فتندس الأجساد التي تحملها في الكتوف !!..., أقدامٌ تتداخل في الاتجاه معاً وتظهر في الوجوه!!, وأخرى لمح البصر تظهر من حيث لا اتجاه, وتختفي أقدام بالكاد تعدو, وأقدام في العدْو لمحة!! لا تكاد تكتمل لي ملامح حامليها.. حِمْـلها يختلف حجماً, وزنة, وشكلاً, وحركة, الأكتاف فوقها تتدلى منها سيور الحقائب, والأكياس, وحاويات الأطفال في القبضة , وما تبضَّعه أصحابها!!.. إنها تتكلم...! أجل الأقدام تتكلم , بألوانها, وحركتها, وأشكال أحذيتها, الظاهرة عن فتحاتها, والمختبئة في تجاويفها, العالية, والمنخفضة, والزاحفة المنبسطة.. أجل تتكلم, كما يتكلم العطر الذي يفوح, ويتبخر في المجهول, والصوت الذي يهمهم ويختفي في العبور.. وتذكّرتها, تذكّرت ساحة الحَمامِ جوارَ بيتنا الصيفي المنزوية في المنعطف المجاور عند منحدر الصَّبار.. فأقبلت إلي بكامل مقاربتها, فكما يحوَّم الحمامُ, ويهمهم الملتقم البذور, ويتداخل , وتصطفق أجنحته, وتتداخل وهو يقبل للساحة محلقاً متنافساً, ويفرعنها بعد أن تفرغ من البذور مغادراً للبعيد, ويختفي , تفعل الأقدام التي أمامي, تختفي في طي النظر بعضها يتداخل ببعض, وبعضها يتباعد عن بعض مختلفاً عن بعض.! تراكمت الصور في ركن قصي من جوف الذاكرة, وبقيت الأصداء، والأشكال, والألوان طافية يحركها نسيم خفقة, وشذى حنين, وثمة أبجدية تتنامى .. تتنامى, ومداد يتسع بحره لا ينفد,..!! هناك في ركني القصي في المقهى لم تكن معي لأنبئها بنتيجة أنّ الحياة تمنح جذوتها في كل حركة مقابل أخرى, ومن ثم تنطفئ بانتهاء وجود الحركة فيها..!! وأن لا نهاية أبدية, ولا انتهاء سرمدياً لها..!! فالعطر, والبذور, والأصداء, والأشياء, والأشكال والألوان, والبذور والمقتنيات, كأجنحة الحَمام, وأقدام الإنسان, تحفظ لها الأماكن والحالات المشابهة بقاياها وإن بقيت أطياف صور عبرت بالعين, واستقرت في المكنون. أجل, الحياة سرٌّ عظيم, حين يكون للإنسان أن يُبحر في التفكير فيها, تقف به حقيقتها عند حدود نصيبه من النُّهى, عند الذي مما يرى, مما يسمع, مما يتأمل, مما يحسُّ, مما يتماهى بالشعور فيه والمخيلة!! الحياة محبرة تمد في أية لحظة بما يتزاحم فيها من الأخيلة, ما يتوالد ببحرها من الصور, بما يتطوف بالمجاز في الذي بقي في عمقها.. فإما أن يخرجه المرء في لحظة ما على نحو ما, أو ينطوي به جِنانه على نحو اعتيادي فيذهب به ما ذهب الراكضون في السوق.!! ربما يتجهون إلى بيوت عامرة, أو إلى بقايا أنقاض هدّتها الوحشة!!. ربما لرصيف مهمل, أو مأوى يضمر, ربما لوسادة ناعمة, أو حجر يقسو, ربما لفرح وشبع, أو لجوع وحاجة, ربما لمحضن آمن, أو شتات ثلجي حارق, ربما ..وربما.. الأقدام تعرف سرّ الاتجاه!!..
مشاركة :