السعداء في فترات صناعة التحولات التاريخية الكبرى، هم هؤلاء الذين يجهلون ما يجري، أو هم الغافلون المنشغلون بذواتهم الضيقة، عن الذات الوطنية الكبرى، أو هؤلاء الذين ينتمون إلى مناطق لم تتشكل بعد ذاتها الوطنية. أما من يمتلكون الحدس السياسي أو الحس التاريخي، فويل لهم، في تلك الحقبة التي تعتصر منطقتنا، لتعيد تشكيلها من جديد. قبل أكثر من مائة عام، شكَّل اتفاق سايكس- بيكو ما أصبح يُعرف لاحقاً، بالشرق الأوسط، والآن بعد مائة عام، فإن ثمة من يرى أن الخارطة قد استنفدت أغراضها، وأن خارطة جديدة لشرق أوسط جديد ينبغي أن تحل محلها. كانت الموصل محور الجدال والصراع والتنافس الدولي في سايكس بيكو الأولى قبل مائة عام، والآن تعود الموصل مجدداً، لتكون الكلمة المفتاح أو «الباسوورد» لخارطة شرق أوسط جديد، قد تشهد ولادة دول جديدة، وتمهد لنظام إقليمي جديد. اللاعبان الرئيسان في غرفة ولادة الخرائط الجديدة، هما الولايات المتحدة، وروسيا، أما القوى المشكلة للنظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، فبعضها، ينتظر خارج غرفة الولادة، مكتفياً بالتمني، على طريقة يا رب ولد، والبعض الآخر، يلح على دخول الغرفة باعتباره صاحب حق تاريخي في المشاركة بصياغة الخارطة الجديدة. القوى الإقليمية الحاضرة بالسلاح أو بالرجال (إيران وتركيا)، أو بهما معاً، هي من تُلِح وتصر على حضور القسمة، بينما يبدو الروس داخل غرفة الولادة، كمن جاء ليستعيد حصته من اتفاق سايكس - بيكو- سازانوف، التي أهدرتها الثورة البلشفية قبل نحو مائة عام. ما تجتازه المنطقة في الوقت الراهن، هو عملية تمزيق الخارطة، وهي العملية الأكثر إيلاماً لمن يجري تمزيقهم، وبانتهاء معركة الموصل في العراق، ثم الرقة في سوريا، تدخل المنطقة طورا جديدا، لا يقل صعوبة عن سابقه، هو مرحلة رسم الخارطة الجديدة. في الطور الجديد، قد نرى تقسيما جديدا للعراق، يتحول معه شمال العراق (الموصل) إلى منطقة «حضور» تركي، وجنوب العراق (البصرة) إلى منطقة «حضور» إيراني. وفي الطور الجديد ذاته، قد نرى، حضوراً روسياً ثقيلاً في سواحل سوريا، وحضوراً غربياً في جنوبها، بينما يتطلع العثمانيون الجدد، إلى حضور ثقيل في شمال حلب. وبينما تبدي روسيا حرصاً على الحضور الثقيل بالقوة في سوريا، فإن الولايات المتحدة لا تبدي الحرص ذاته بنفس القدر من الاستعداد للمخاطرة، مكتفية بدعم رؤية وكلائها الإقليميين، والمحليين على السواء. عملية إعادة تمزيق المشرق العربي عند منطقة الهلال الخصيب (سوريا والعراق)، تجري الآن على قدمٍ وساق، ما قد يضع نهاية عملية، لما سمي بالنظام الإقليمي العربي، الذي قد يخلي مكانه مجبراً، لصالح صيغة جديدة لنظام إقليمي شرق أوسطي جديد، تتحول المنطقة العربية بعده، إلى فضاء ثقافي عربي تجمعه اللغة، ويُفرِّقه كل ما عداها، تماماً مثل المنطقة الفرانكفونية، للدول الناطقة بالفرنسية، أو المنطقة الأنجلو سكسونية للدول الناطقة بالإنجليزية. واقعياً، على الأرض، يبدو النظام الاقليمي العربي عاجزاً حتى عن وقف التدهور، فيما باتت أقصى أمانيه، هو إبطاء إيقاعه. أي أمل بوقف تدهور النظام الإقليمي العربي، ينبغي أن يبدأ من نقطة تعارف جديدة بين الأطراف الفاعلة المتبقية من هذا النظام. نقطة التعارف الجديدة تلك، يجب أن يتفق العرب عندها، على تحديد ماهية الخطر، واتجاه حركته، وسرعة إيقاعه، ثم على طبيعة الخطوات المطلوبة لإبطاء إيقاعه، ثم لجمه أو إيقافه، ثم على حصص كل طرف عربي في أعباء تلك المواجهة. بلوغ نقطة التعارف العربي الجديدة، بات هو ذاته معضلة، فيما تنكفئ أغلب الأطراف العربية، على ذواتها، كُلٌّ يُداوي جراحه، لكن لا بديل عن بلوغها، إذا كان بينهم ثمة من يتمسك بإرادة البقاء. أشفق بشدة على الأمين العام لجامعة الدول العربية، في أكثر مراحل التاريخ العربي صعوبة وحرجاً منذ تأسيس الجامعة العربية قبل أكثر من سبعين عاماً، ولو كنت مكانه، لشرعت على الفور بإنشاء إدارة جديدة، أُطلق عليها «إدارة التكيُّف مع المستجدات»، لأن ما لا يُدرك كله، لا يُترك جله. وما لا تستطيع تغييره، عليك أن تتعلم سبل التعايش معه. احبسوا أنفاسكم.. وأغمضوا عيونكم.. فالمنطقة توشك على دخول طور السقوط الحر. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :