ما كل ما يعلم يُقال

  • 11/4/2016
  • 00:00
  • 68
  • 0
  • 0
news-picture

حري بكل مسؤول وصاحب رأي وفكر وعلم: أن يراعي فقه المآلات، وعواقب الكلام، وإن كانت فتوى في النوازل والمستجدات فلا يلزم أن تكون مستعجلة أو على الهواء، لا سيما في هذه الأوقات التي تبلغ الفتوى فيها الآفاق ورد في الحديث الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قوله: (كفى بالمرء إثما أن يُحدِث بكل ما سمع)، وإنما كان إثما لأنه ليس كل ما يُسمع صحيحا، وحتى لو صح سنده، فربما لا يصح نشره، ولو صح نشره لشخص أو أشخاص معينين، فقد لا يصح أن يعمم نشره للجميع، لا سيما إن كان العلم به لا ينفعهم، والجهل به لا يضرهم، فما بالك إن كان العلم به يضرهم ولا ينفعهم؟ فالعاقل قبل أن يتحدث أو يكتب ينظر في عاقبة ذلك، هل هو مصلحة، فيُقدِم، أم لا، فيُحجِم؟ ولذلك كان سكوت من سكت من العقلاء، ليس عن جهل ولا عجز، ولكن سكتوا عن علم، وفقهٍ للمآلات. وأولي النهى من أهل العلم، وحملة الأقلام، وأهل الرأي والفكر: هم الذي يقدرون الوقت المناسب للكلام، أو السكوت عنه، وليس لأحد من متابعيهم أو طلابهم أو محبيهم أو مخالفيهم، أن يفرض عليهم توقيت ذلك، وأما الرأي الحكيم الناصح، الموافق للصواب، فهو مقبول، وإن كان قائله أدنى علما ومكانة ومنزلة من المنصوح. يدل على ذلك أنه لما تحدث بعض الناس في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو في موسم الحج، بأمور خاصة، لا سيما ما يتعلق بالبيعة، همَّ رضي الله عنه أن يتحدث في ذلك، فأشار عليه عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- برأي مبارك، استحسنه عمر -رضي الله عنه- وأخذ به، قال ابن عوف، رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مُطيّر، وأن لا يَعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّنا، فيَعِي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة)، ففعل ذلك رضي الله عنه لما قدم المدينة. فالناس تختلف أفهامهم وعقولهم، وما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ولهذا جاء في صحيح البخاري قوله: باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. وقوله كذلك، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا. وذكر الأحاديث النبوية في ذلك بأسانيدها. وبعض الكلام -وإن كان حقا- لا ينبني على معرفته حكم شرعي، ولا مصلحة للناس فيه، وقد يحدث شرا لقائله، وفتنة لسامعه، فما الفائدة من نشره حينئذٍ؟ وقد جاء في صحيح البخاري أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثتُه، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم). فالوعاء الذي رأى رضي الله عنه ألا يبثه، هو ما لا ينفع الناس نشره، من بعض أخبار الفتن والأسماء التي يضر نشرها ولا ينفع، ولو كان يتعلق بذكره شيء من الأحكام الشرعية، أو نفع الناس، ما وسعه كتمه. فحري بكل مسؤول وصاحب رأي وفكر وعلم: أن يراعي فقه المآلات، وعواقب الكلام، وإن كانت فتوى في النوازل والمستجدات فلا يلزم أن تكون مستعجلة أو على الهواء، لا سيما في هذه الأوقات التي تبلغ الفتوى فيها الآفاق، وأحوال المستفتين وظروفهم وواقعهم يختلف، وربما لو عُرض مثل تلك المسائل على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدر. والمتابع لما يعرض في بعض وسائل الإعلام والتواصل يلحظ مع الأسف جرأة عجيبة في إطلاق كلام لا خطام له ولا زمام، وليس عليه أثارة من علم، وبعض الكلام يزعج الناس الذين ليس لهم من الأمر شيء، وليس في أيديهم شيء، فيستفزهم ويشحن قلوبهم، ويحزنهم، ويضيق صدورهم. وكان المتعين على المتكلم أن يتوخى: الكلمة الطيبة، والفأل الحسن، والبشارة بفضل الله، اقتداء بنبينا، عليه الصلاة والسلام: فقد كان يعجبه الفأل، ومع أنه عليه الصلاة والسلام لا يجد من التمر الرديء ما يملأ بطنه، فقد قال للأنصار، رضي الله عنهم، لما جاؤوه يرجون عطاءه، قال لهم بعدما تبسَّم في وجوههم: (أبشروا وأملوا ما يسركم...الخ الحديث الذي رواه البخاري ومسلم). فما أحوج الناس للكلمة الطيبة، والفأل الحسن، والسكينة والطمأنينة. وبحمد الله فهناك من أهل العلم من يحرص على الكلمة الطيبة، وينتقي كلامه، كما ينتقي أطايب الثمر، وهناك من الكُتّاب في وسائل التواصل والصحف ونحوهما، من يكتبون عن علم، وجدارة، وبُعْد نظر، ليسوا حريصين على إذاعة كل ما سمعوه، لا سيما ما يتعلق بالأمن أو الخوف، أو ما يُصادم الثوابت الشرعية والوطنية. وقد قال ابن سعدي، رحمه الله: في قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)، دليل على أن الأمور المهمة، سواء كانت شرعية أو سياسية أو أمنية أو غيرها، مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن على أهل الإيمان أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يفقهون المصالح وضدها. وفي هذا قاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام. وإذا كان ليس كل ما يُعلم يُقال، فكيف بمن يقول وينشر ما لم يُحط به خُبْرا؟ ولم ير المشهد بتمامه، والموضوع من جميع زواياه، فقد يكون في الزوايا خبايا، لو علمها لكان له رأي آخر.

مشاركة :