2016/11/03 النقاشات التي لا تنهض على أساس موضوعي وعلمي تنهي إلى جدل عقيم، وقد يفضي الجدل العقيم إلى شجار وقطيعة بين المتناقشين إذا كان التعصب هو المنطلق. لا شيء يفسد النقاش الصحيح سوى الافتقار للمعلومة الصحيحة والاستسلام للتعصب والهوى. في النقاشات التي تتناول موضوعات يومية ككرة القدم والأندية الرياضية ينتهي النقاش في الغالب إلى شحناء تفسد بين الأصدقاء الود والمحبة. وأصل ذلك كله الهوى والتعصب؛ فلا يعقل أن يقر الهلالي المتعصب للنصراوي المتعصب بشيء أو العكس حتى ولو كانت الحجج جلية وبينة. أما النقاشات السياسية فحدث ولا حرج.. فهي مشابهة للنقاشات الرياضية ويضاف إليها قلة المعلومات وضبابية الحقائق.. والسبب يعود إلى أن الواقع السياسي ملتبس وغير واضح، فكل حزب وكل فريق له إعلامه وله مريدوه.. وكل يدعي وصلاً بليلى.. وفي هذا الخضم المائج بالآراء تغيب الحقيقة. المتعصب لا يرى الحقيقة.. وإن رآها تجاهلها. وهدف المتعصب أن ينتصر لرأيه ولا يهتم بالبينة ولا بالبرهان. والتعصب ليس مقتصراً على من يسمون بالعامة من الناس، بل الخاصة من أهل العلم والأدب أشد تعصباً إذا كان الهوى لهم مرشداً وهادياً. فمما يروي صاحب الأغاني أن محمداً الأزدي أنشد دعبل بن علي شعراً لأبي تمام ولم يخبره أنه له (وكان دعبل يكره أبا تمام ويزعم أنه يسرق منه!). فقال محمد: كيف ترى هذا الشعر؟ فقال دعبل: أحسن من عافية بعد يأس. فقال: إنه لأبي تمام. فرد دعبل: لعله سرقه! ويقول الأصفهاني: «وفي عصرنا هذا من يتعصب له (أي لأبي تمام) فيفرط، حتى يفضله على كل سالف وخالف، وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه، ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك»، ولعل الأصفهاني يقصد بالقحة والمكابرة ما رواه الخفاجي في سر الفصاحة من تعصب بعض أهل الأدب للقدماء ورفضهم للشعراء المحدثين الذين كان أبو تمام رائدهم. يقول الخفاجي: «ذهب قوم من الرواة وأهل اللغة، إلى تفضيل أشعار العرب المتقدمين على شعر المحدثين كافة ولم يجيزوا أن يلحقوا أحداً ممن تأخر زمانه بتلك الطبقة وإن كان عندهم محسن» ثم ينقل الخفاجي قصة ابن الأعرابي عندما أنشد أرجوزة أبي تمام التي أولها: وعاذل عذلته في عذله فظن أني جاهل من جهله على أنها لبعض العرب فاستحسنها وأمر بعض أصحابه أن يكتبها له، فلما فعل قال إنها لأبي تمام. فقال: خرق خرق فخرقها. وكذا يروي أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد الأصمعي: هل إلى نظرة إليك سبيل فيروى الصدى ويشفى الغليل إن ما قل منك يكثر عندي وكثير ممن يحب القليل فقال له الأصمعي: لمن تنشدني؟ فقال: لبعض الأعراب فقال: هذا والله هو الديباج الخسرواني قال: فإنهما لليلتهما قال: لا جرم والله إن آثار الصنعة والتكلف بين عليهما. هكذا يتجلى لنا أن التعصب آفة لا ترتبط بالجهل فقط، بل إن أهل العلم والدراية لا يسلمون منها، وهي في كل حال نازع من نوازع النفس كالحسد والغيرة والرغبة في الثأر والانتقام.. ولا ينجو منها إلا من كان واسع الأفق رحب الصدر مترفعاً عن دناءات النفوس مهتدياً بنور العقل.
مشاركة :