د.سالم بن عبدالله الوهابي يكتب “النظام الصحي السعودي وتعزيز الثقة”

  • 11/4/2016
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

سالم بن عبدالله الوهابي: الحديث اليوم عن سلامة المرضى لا يكاد ينقطع. في أميركا وإنجلترا وكندا يدور النقاش في المجتمع الطبي منذ نحو عقد من الزمان عن «وباء» جديد لا يقل خطره عن فيروس ايبولا او كورونا وينتشر بسرعة هائلة. هذا الوباء اسمه «الأخطاء الطبية» ويحدث حتى في أكثر المراكز الطبية تقدماً ويصيب بدرجات متفاوتة واحداً من كل عشرة مرضى أثناء تلقيهم الرعاية الصحية في المستشفيات. ومن بين كل (100) مريض يتلقى الرعاية في المستشفى في أي وقت، يصاب بالعدوى البكتيرية او الفيروسية ذات الصلة بالرعاية الصحية سبعة مرضى في البلدان المتقدمة وعشرة مرضى في البلدان النامية كما تشير تقارير منظمة الصحة العالمية، والأمثلة على هذا كثيرة ومنها التهاب الجرح بعد العملية الجراحية أو التهاب المسالك البولية بعد إدخال قسطرة الاحليل. هناك خبران جيدان هنا: الأول أن أكثر من ثمانين بالمئة من الأخطاء الطبية يمكن تلافيه بسهولة، والثاني أن معظمها لا يصل أصلاً للمريض (بسبب اكتشافه مبكراً إما بالمصادفة أو بسبب يقظة النظام أو البشر أو كليهما) أو أنه يصل للمريض بالفعل ولكن لا ينتج عنه أذى كبير. كثير من القصص التي تحكي كيف تعرض المرضى للأذى أثناء تلقيهم الرعاية الصحية كانت قصصاً في غاية الألم، والدرس المستفاد المتكرر دوماً مع كل قصة هو: كم كان سهلاً تجنب ما حدث! أذكر هنا على سبيل الاستدلال قصة مريض يدعى (بل ايدت) كان يعاني من تليف شديد بالرئة واستمر في انتظار متبرع اكثر من عشر سنوات. بعد عملية جراحية ناجحة استمرت تسع ساعات في أحد المستشفيات الأميركية خرج (بل) برئة جديدة أعادت له الأمل بحياة حافلة. وبعد بضعة أيام وبينما كان ينتظر الممرضة التي تأخرت كثيراً في مساعدته للعودة من دورة المياه الى سريره قرر أن يسير بمفرده لكنه سقط وأصيب بكسر استدعى بقاءه مستلقياً في السرير بدون حركة فتجمعت السوائل في رئته وأصيب بالتهاب رئوي نقل على إثره الى العناية المركزة وهناك أصيب ثانية بجلطة في الساق انتقلت الى الرئة، ثم أصيب بنوع من البكتيريا الضارة (MRSA) استدعت علاجه بعدد من المضادات الحيوية القوية والتي بدورها أثرت في جهازه المناعي فتطور الأمر إلى عدوى بكتيرية خطيرة (C.Difficile) أدت إلى التهاب شديد وتهتك في جدار القولون ثم فشل كلوي ومن ثم الوفاة. بالتحقيق لاحقاً مع الممرضة المسؤولة اتضح انها كانت تتولى رعاية سبعة مرضى في وقت واحد. هذا مثال بارز على أن معظم الأخطاء الطبية سببه الجذري هو ثغرات في النظام، وعبر تلك الثغرات تنفذ أخطاء البشر لأنهم بطبيعتهم خطاؤون، وتعتريهم حالات التعب والإرهاق والنسيان وهم بذلك عرضة للخطأ في كل وقت وفي كل مكان. إن الوظيفة الحقيقية إذن لمدير المستشفى ومديره الطبي ورؤساء الأقسام الطبية والتمريضية هي في تصميم النظام بطريقة تجعله لا يسمح أصلاً بوقوع الخطأ، وإن وقع فإنه لا يسمح له بالنفاذ والوصول إلى المريض لأنه يكتشفه مبكراً. هذا الفكر مختلف تماماً عن الثقافة السائدة في كثير من مستشفيات العالم وبالذات في الأنظمة الصحية النامية والتي تتفاعل مع الخطأ بعد وقوعه وليس قبل وقوعه. فرق كبير بين توقع الخطأ قبل وقوعه وسد الثغرات التي قد يحصل من خلالها (الحالة الاستباقية) وبين انتظار الخطأ حتى يقع ومن ثم معالجة مسبباته (الحالة التفاعلية). الأمر شبيه تماماً بفريق كرة القدم الذي يدخل المباراة وخطته هي ألا يدخل هدف في مرماه، والفريق الآخر الذي تقوم خطته على المبادرة بتسجيل الأهداف. الفريق الأول غالباً ما ينتهي بالهزيمة أو بالتعادل في أحسن الأحوال أما الثاني فهو غالباً ما يفوز. على كل مدير مستشفى هنا في المملكة أن يسأل نفسه بكل شجاعة: هل أريد المبادرة بتسجيل الأهداف أم أنتظرها حتى تدخل في مرماي؟! في بلادنا الغالية لا يختلف الأمر كثيراً عن الدول المتقدمة سالفة الذكر فيما يتعلق بسلامة المرضى، والمستشفيات لدينا بصفتها أكثر الأماكن التي تحدث فيها الأخطاء الطبية لكثرة المرضى وكونها تحتوي على المناطق الخطرة مثل غرف العمليات الجراحية والتخدير وبنوك الدم بدأت تتنبه إلى هذا الخطر القادم ولكن لا يوجد تصور واضح لما يمكن فعله في هذا الصدد. تقوم استراتيجية العمل لدى المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية (CBAHI) على وضع المعايير (Standards) التي تمثل الأداء المثالي والممارسات الصحيحة الآمنة في المستشفيات، ويتم تقييم تلك المستشفيات من خلال زيارات ميدانية عن طريق مقيّمين متخصصين لتحديد مدى التزامها بتطبيق المعايير. الرسالة المهمة هنا هي أنه مهما بلغت صعوبة المعايير ومهما بلغ تكرار الزيارات التقييمية سواء أكانت مجدولة ام مفاجئة، فإن كل هذا لا يغني عن الجهود الذاتية الداخلية التي تقوم بها إدارة المستشفى لرفع مستوى الجودة والتقليل من إمكانية حدوث الأخطاء والعثرات. هذه الجهود يجب ان تكون مبنية على تصور واضح يدعو له سباهي ومعه كل هيئات الاعتماد الصحي في العالم وهو أن الأخطاء تحدث – بل يجب أن تحدث وإلا فلا يوجد عمل – ولكنها لن تصل للمريض لأن النظام (System) مليء بصمامات الأمان والجدران العازلة التي لا تسمح بنفاذ الخطأ، وفي كل مرة تسير فيها الأمور في الطريق الخطأ فإن مدير المستشفى لا بد ان يعرف، ليس لأن لديه «جواسيس» يخبرونه بما يحدث خلف ظهره، ولكن لأن هناك آلية واضحة ومعروفة تشجع جميع العاملين على التبليغ عن الأخطاء الطبية عند اكتشافها من غير خوف أو تردد. هذه البيئة الطاردة للخوف والمشجعة على المصارحة والتبليغ والمكاشفة بدون خوف من العقاب هي ما يحدد نجاح إدارة المستشفى من فشلها على المدى البعيد. يتحدث خبراء الصحة كثيراً عن رضا المريض (Patient Satisfaction) وضرورة السعي لتحقيقه وأهمية قياسه من فترة لفترة، لكنني أدعو إلى ما هو أبعد من ذلك، الا وهو السعي نحو كسب ثقة المريض (Patient Trust) وليس مجرد رضاه عما قُدم له من رعاية صحية. الثقة مرحلة متقدمة وسامية في العلاقة ما بين النظام الصحي والمريض، وهي المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى حالة الولاء الكامل (Loyalty) التي تجعل المريض يثق ثقة عمياء في طبيبه المعالج وفي المستشفى الذي يتلقى الرعاية فيه ولا يقبل تغييرهما مهما حدث لأن تجاربه السابقة معهما أثبتت له مرة بعد أخرى أنهما أهل للثقة. النظام الصحي السعودي لا يحتاج في المرحلة المقبلة إلى رفع مستوى رضا المرضى فحسب. إن الأمر متعلق في المقام الأول بثقة المجتمع في النظام الصحي، ولا بد من تعزيز تلك الثقة بالتخطيط المدروس الممنهج والتركيز على الأولويات ووجود استراتيجية عمل واضحة يسير عليها الكل لا تتغير بتغير مدير المستشفى ولا بتعاقب وزراء الصحة! المصدر

مشاركة :