«فيشاوي» غادة العبسي... رواية الأمكنة والبشر

  • 11/5/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في روايتها الأولى «الفيشاوي»، ثمة رغبة عارمة لدى الكاتبة المصرية غادة العبسي في أن تصنع نصاً ملحمياً، تتواتر فيه الأمكنة والبشر والحكايات، مشغولة بالتاريخ الشعبي، الذي لم تدونه السجلات الرسمية، فبدت «الفيشاوي» (دار «الساقي)، تعبيراً جمالياً عن تاريخ من لم يذكرهم التاريخ، عن: علي ورجب وسرّورة والشيخ عبدالله ونبيّات ونِكلة ووَدّودة وعفيفة وغريب هوى وعبدالرحمن وإيليا راعي الكنيسة وبِرتا وإلياس جاد الرب وطه ولبنى وغيرهم... عن أولئك المقموعين الذين لا يعرفهم أحد، في رواية تتعدد الأمكنة المركزية داخلها، من «فيشا النصارى» - قرية من قرى محافظة المنوفية في الدلتا المصرية - إلى الحي الشعبي العريق «روض الفرج»، إلى «القرنص» الإنكليزي، إلى القطار، إلى شبرا الثانوية، إلى مدينة السويس، إلى ميدان التحرير، ثمة فضاء رحب يتبدل فيه الشخوص ويتنوعون، وإن ظلت هذه الروح المصرية الخالصة هي أهم ما يسم الرواية، ويكشف عن ملامحها الجمالية والرؤيوية المختلفة. وتتجلى هذه الروح بدءاً من اختيار الأمكنة ذاتها، بمصريتها الشديدة، حيث الريف المصري المسكون بالحكايا، مروراً بالأحياء الشعبية التاريخية «بولاق أبوالعلا»، فضلاً عن التصدير الدال للفصول السردية المتعاقبة بمقاطع من شكاوى الفلاح المصري الفصيح أو بأغانٍ من التراث المصري» أغنية شادوف/ أغنية ساقية/ أغنية لعب/ أغنية خيّال، وسواها. وهذه الروح تدرك تلاحمها الوطني، فالبلدة كلها تنصت بشغف الى حكايات الجندي المصري «جرجس عوض» عن «حرب فلسطين»: « الشيخ وعلي جالسان إلى بعضهما وسط رجال فيشا... ثم أقبل على الجمع جرجس، ابن عوض، وقد عاد لتوه من حرب فلسطين. هب علي واقفاً عندما رآه وصاح: - من؟ جرجس. لا أصدق عيني. أفتقدك جداً،...»( ص 79). تبدو الفيشاوي نسبة إلى بلدة «فيشا»، ومن ثم تصبح الفيشاوي علامة على مكان رامز إلى جملة من التراكمات الحضارية التي تشكل جماع الهوية الوطنية المصرية المتراكبة، فالجذران القبطي والعربي حاضران بقوة، ومن قبلهما الجذر الفرعوني ممثلاً في مقولات الفلاح الفصيح « خنوم أنوب». وفي المتن كتابة تستقي مفردات البيئة المحلية وتستلهمها، وتصبح أحد أهم تنويعات الأداء اللغوي داخلها. فعلى رغم اللغة الكلاسية السامقة التي تشكل جوهر الأسلوب السردي في النص، والمنعكسة على الحوارات التي جاءت فصيحة، ولم تتخذ من العامية بطزاجتها وعفويتها صيغة لها، فإن ثمة لغات متباينة داخل الرواية، من أبرزها التوظيف الدال للتعبيرات المأخودة من المكان المحلي» الريف» وناسه، من قبيل: «المصلحة» أو قطعة القماش التي تنظف الفرن قبل «الخبيز»، و«بيت الوِلد» كناية عن رحم المرأة. تمثل عناوين الفصول التسعة بنية دالة داخل الرواية، أي أنها قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للنص، فكل فصل له عنوان يؤشر إلى المكان - وفق التحليل السيميولوجي - ، ومن ثم تأخذ عناوين الفصول أسماء أمكنة من قبيل: فيشا/ بولاق أبوالعلا/ عزبة بلال/ المدينة/ الميدان. تأخذ الرواية مقطعاً من الحياة المصرية بتنويعاتها السياسية والثقافية، وتحولاتها الاجتماعية العاصفة عبر أسرة الشيخ عبدالله وسرورة وأبنائهما وأحفادهما، وتتواتر الأزمنة على نحو دال، تعتمد فيه الكاتبة آلية الاختيار، حيث تنتخب لحظات مفصلية من عمر الأمة المصرية، وتبثها في متن السرد، وتأتي الإشارات حولها عابرة حيناً، فتبدو وكأنها محض تأشير إلى الزمن على نحو الإشارة إلى عودة سعد زغلول من المنفى، أو الحرب العالمية الثانية التي يأتي ذكرها عابراً في جملة سردية تختتم به غادة مقطعها «علي ونبيات» من فصل « لقرنص الإنكليزي»: « لا أفهمك يا علي، كيف أنت سعيد بتلك الحرب؟ كيف يصير المرء سعيداً بالحروب؟ بهذا الخراب؟ بالناس يموتون رعباً قبل أن يموتوا بطلقات الرصاص والغارات؟ أعرف أنك تكره الإنكليز أكثر من أي شيء، من الفقر والظلم... لكني أكره الحرب. أخشى على أولادي وعليك وعلى هذا البيت الذي يؤوينا. أخشى على أهلي المتبرئين مني وأهلك الذين يكرهونني ...» ص 74. وقد يصبح الزمن إطاراً مرجعياً للحكاية وجزءاً متمماً لها، على نحو ما نرى في فصل «جبل الأولياء»، حال الحديث عن الحفيد «طه» ابن علي، وروحه المؤرقة «لبنى»، والسويس، والتهجير، وهزيمة الصيف السابع والستين، والحرب التي أعادت الكرامة المصرية «أكتوبر 1973». وتلعب القفزات الزمانية دوراً في تتابع السرد، حتى تصل الرواية إلى منتهاها بالإشارة المباشرة إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير في مقطع «الميدان»، وغير المباشرة عبر التمهيد لثورة الثلاثين من يونيو بانتقاد حكم محمد مرسي وجماعته الرجعية نصاً في مقطع: «هاشتاج/ موتوا بغيظكم». (ص 246). تبدو المصاحبات النصية جزءاً من متن السرد، ممثلة لما يعرف بالنص المصاحب أو الموزاري Companied Text، بدءاً من استعارة التاريخ المصري القديم ممثلاً في شكاوى الفلاح المصري الفصيح، مروراً بالمخيلة الشعبية في أشد حالاتها وهجاً عبر استلهام أغاني التراث المصري بتجلياته المختلفة، وتتداخل أصوات السرد محققة ذلك المنطق الديموقراطي في الكتابة عبر حضور الرواة المتعددين الذين يتشاركون في صياغة الحكاية على نحو متتابع، وقد يتقاطع في الفصل الواحد صوتان سرديان على نحو ما نرى في مقطع «علي ونبيات»، ويصبح الاستخدام الدال لخطوط الكتابة على فضاء الصفحة الورقية وسمكها أيضاً آلية توظفها الكاتبة هنا وببراعة. ويصبح عنوان المقطع السردي في كل فصل علامة على راوية، حتى الفصل الذي يحمل عنوان «وابور زلط»، نرى فيه أنسنة لهذه الآلة الجامدة والحيوية في آن، فتحكي على لسانها ما تراه وترصده: «لم يكن علي يحسن قيادتي في بادئ الأمر، وكانت يداه ثقيلتين جداً، كونه حداداً لا يجعله سائقاً محترفاً إلا بشق الأنفس، الراحتان المدربتان على الطرق لا تقدران على الثبات فوق تارة قيادة...»(ص 75). وبعد... شأن كل النصوص الأولى أرادت غادة العبسي أن تقول كل شيء في نص واحد، فترهلت بعض مناطق السرد، وربما هذا الحس الملحمي كان دافعاً صوب كتابة مناط الجدارة فيها ليس إمساكها بمقطع طويل من عمر الأمة المصرية بناسها في مئة عام تقريباً، ولكن في اقترابها من عوالم إنسانية مدهشة لدى الفلاحين في «فيشا»، والمنشدين، وعمال العنابر في روض الفرج، والمنسحقين في «عزبة بلال»، والمغادرين مدينتهم من ناس السويس، والثائرين في الميدان، والرافضين للوصاية الدينية، حيث بدا السرد هنا رهيفاً وشفيفاً، مغوياً ونبيلاً، جدارته الجمالية في إيهامه بالواقع، وإنسانيته العذبة.

مشاركة :