«زهرة الصبار»... ملكة الإحساس سناء جميل

  • 11/6/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

سناء جميل ليست ممثلة عبقرية فحسب، ولكنها حالة فنية مليئة بالصدق، كائن إنساني يفيض بالمشاعر... هي «زهرة الصبار» التي تحدّت العادات والتقاليد والأفكار البالية لإيمانها بالفن، وصمدت بصبر أمام «خشونة» الحياة بكل ما حملته لها من مصائب وأهوال. قاومت «عطش» المرض و«أشواك» المحنة وكل من ظلموها، وأخلصت لموهبتها تماماً، فظل «أريج» عطائها الفني و«بريق» نضارته لا يعترف أبداً بالرحيل. عن ابنة الصعيد ثريا يوسف عطا الله، أو زهرة الصبار التي تفتحت موهبتها في ليلة حريق القاهرة في مطلع خمسينيات القرن الماضي نحكي... من يمكن أن ينسى «نفيسة» في «بداية ونهاية» وقدرتها المذهلة على ترجمة مشاعر الشخصية بفهم واعٍ، تحولت معها من مجرد حروف منقوشة على الورق إلى لحم ودم ومشاعر فياضة، ما دفع مؤلفها أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ إلى التصريح بأن سناء جميل أعادت خلق الشخصية على الشاشة وبصورة تحاكي بل تفوق ما كان في خياله وهو يكتبها. ربما هذا التميز جعلها تقترب من الفوز بجائزة التمثيل الأولى في «مهرجان موسكو» عام 1960، قبل أن يكتفي الأخير بمنحها جائزته الثانية، وهو أيضاً ما دفع عميد الأدب العربي طه حسين إلى أن يكتب عنها مقالاً نشره في جريدة «الجمهورية» عام 1956 أثنى فيه على موهبتها وقدرتها على تفهّم الشخصية، وكانت آنذاك وجهاً جديداً. هي أيضاً «حفيظة» في فيلم «الزوجة الثانية»، واحدة من روائع أبو الواقعية الراحل صلاح أبو سيف، وهو العمل الذي أثبتت من خلاله جميل مجدداً قدرتها المذهلة على تفهّم أبعاد الشخصية، وقدرتها على ترجمة مشاعر الزوجة العاقر الغيور على زوجها، وهي تراه يلهث وراء أخرى وافقت قهراً أن تشاركها فيه، وكيف تنقلت ببساطة بين التراجيديا والكوميديا بسلاسة لا تملكها غير ملكة الإحساس سناء جميل. أو «فضة المعداوي»، الدور الأثير الذي منحته سناء من مشاعرها الكثير، وأضفت عليه تألقاً خاصاً، فلم تسقط في فخ المبالغة أو الركض خلف «إفيه» لتظلّ أفضل شخصية درامية نسجها الراحل أسامة أنور عكاشة وبشهادته هو شخصياً، مشيراً إلى أن سناء منحت فضة حياة فاقت تصوراته كافة على الورق. أو.. أو ... شخصيات كثيرة رائعة جسدتها الراحلة سناء جميل سواء على خشبة المسرح الذي عشقته أو إزاء كاميرات السينما والتلفزيون، المؤكد أنها أنها كانت وستظل محفورة في وجداننا وذاكرتنا إلى الأبد كشاهد وحيد ومؤكد على عظمة هذه الموهبة. بين نارين كان الليل يقترب وألسنة النيران تلتهم كثيراً من الأبنية والمحلات في وسط العاصمة المصرية في 26 يناير 1952، فيما كانت ثريا يوسف عطا الله (المولودة في 27 أبريل 1930) تمشي وسط الشوارع شبه المهجورة من البشر، اللهم إلا من بضع سيارات عسكرية كانت تقطع الطريق ذهاباً وإياباً، وأخرى من سيارات الإطفاء تجتهد عبثاً في السيطرة على حرائق راحت تلتهم كل ما حولها. اجتهدت في مسح دموع تساقطت رغماً عنها، وهي تواصل السير بشكل عادي وكأنها تعرف وجهتها نحو ميدان الإسماعيلية (التحرير راهناً)، كل ما حولها بات متفحماً، أبنية، وهياكل سيارات محترقة وأخرى مقلوبة، ولافتات محطمة، وبقايا أثاث محترق وركام من زجاج مكسر وأخشاب وحديد وأوراق تحوّلت أطرافها إلى رقائق من رماد. انعطفت لتدخل شارع قصر النيل، فتكرّر المشهد: واجهات زجاجية مهشمة، ومداخل أبنية ومحال مدمرة، وأثاث متفحم، وبضائع متناثرة في الشوارع، وسيارات مقلوبة وأخرى متفحمة... كانت النيران أكلت أجزاء كبيرة من محلات «غروبي» و«بنزايون» و«شالون» و«بوسطون هاوس» ومتاجر أخرى كثيرة شكّلت آنذاك أبرز معالم «وسط البلد» وفقاً للتعبير الدارج الآن، ولا يزال بعضها شاهداً على عظمة وروعة ذلك الحي الذي أمر بتشييده وشق طرقه وشوارعه الخديو إسماعيل على غرار معشوقته باريس، ليضمّ مراكزها التجارية ومؤسسات حكمها وقصور حكامها. قادتها قدماها إلى «كوبري قصر النيل»، وقفت سناء جميل (الاسم الذي اختاره لها أستاذها زكي طليمات بعد أن ضمّها إلى فرقة المسرح الحديث التي أسسها من بين طلبة المعهد في خمسينيات القرن الماضي) وحيدة تنظر إلى مياه النيل وكأنها تشكو له ضعفها وقلة حيلتها، ذلك بعدما طردها شقيقها من منزله حينما اكتشف التحاقها بمعهد التمثيل ومن دون علمه، فهو كان يرى في اختيارها أن تكون «مشخصاتية» وهي «الصعيدية» العار بعينه، فطردها إلى الشارع ومن دون رحمة. كانت سناء جميل علمت بشأن معهد التمثيل من خلال ابن الجيران الذي ساعدها على تقديم أوراقها بعدما أخبرته عن نشاطها المسرحي في المدرسة، ومدى حبها للتمثيل، فيما ساعدتها والدته مرات عدة في تغطية فترات غيابها من المنزل أثناء دراستها في المعهد، ولولا اختيارها من أستاذها زكي طليمات للانضمام إلى فرقة «المسرح الحديث» التي أسسها من بين طلبة المعهد وطالباته، واضطرارها إلى التغيب فترات طويلة عن المنزل أو التأخير ليلاً بسبب التمارين والعروض، لربما نجحت في إتمام دراستها بهدوء ومن دون علم شقيقها الذي طردها فور اكتشافه الأمر، إذ افتضح أمرها وعرف الأخ المأساة التي حلت به بسبب خروج أخته على تقاليد العائلة المقدسة، ومجتمع الصعيد المحافظ. الشقيق وعلامات الغضب تكسو وجهه: كنت فين يا ثريا، وإزاي تخرجي أصلاً من غير إذني؟ سناء (متلعثمةً): كنت... قاطعها بحدة: أنت صحيح بتدرسي في معهد المشخصاتية؟ استجمعت شجاعتها وردت بقوة: أيوه. صفعها شقيقها بعنف وقسوة لم تعهدهما منه سلفاً، ثم قال: المسخرة دي لازم تنتهي. انسي الكلام الفارغ ده، بلا تمثيل بلا قلة حياء. واصل شقيقها الكلام بحدة: ومن بكره مافيش خروج من البيت إلا بإذني، ومافيش معهد ولا المسخرة دي.. قال تمثيل قال! ردّت سناء والدموع تغطي وجهها: بس ده مستقبلي وأنا حرة. فجاء الرد قاسياً من شقيقها، صفعة أخرى وثالثة ورابعة على وجهها، وعلى مناطق متفرقة من جسدها. كانت «علقة موت»، كما وصفتها سناء جميل لاحقاً، ما زاد من إصرارها وتحديها، فاستجمعت ما تبقى من شجاعتها وراحت تمسح دموعها، وفي هدوء وتحدٍ أخبرت شقيقها بأنها لن تتخلّى عن دراستها في المعهد، لأنها ترى في التمثيل مستقبلها الذي ستواصل العمل به. لم يناقشها، وكأنه لم يسمع ما قالته أصلاً، فعادت تكرّر على مسمعيها الكلام نفسه، وأن التمثيل حلمها الذي لن تتخلى عنه، وأنها راغبة في مواصلة دراستها في المعهد، مؤكدةً أنها تحظى باحترام أساتذتها وزملائها و... إلا أن شقيقها وكأنه لم يسمع حرفاً واحداً مما قالته وفي هدوء استدار نحوها قائلاً: لو عاوزة تفضلي أختي وتعيشي في بيتي تنسي الكلام الفاضي والمسخرة دي، و إلا و... لحظة صمت مرت كالدهر قبل أن تقطعها سناء قائلة: وإلا أيه؟ الشقيق بحسم: تخرجي من بيتي فوراً وتنسي إلى الأبد أنني أخوكِ وأنك بنت يوسف عطا الله. لم تتردد سناء للحظة في الخروج إلى الأبد من بيت شقيقها وحياته، لم تفكر لثوان ماذا ستفعل وأين ستذهب. فجأة وجدت نفسها في الشارع في ليلة بائسة لم تنرها سوى ألسنة اللهب التي راحت تأكل كل ما حولها حتى روح سناء، فهل النيران دمرت روحها وقلبها المشرد كما دمرت مدينتها البائسة المحتلة؟ خرجت سناء من بيت شقيقها، آخر من تبقى من عائلتها الصغيرة بعد رحيل والديها، من دون أن تتمهّل للحظات كي تفكر في المجهول الذي ينتظرها. كان قرارها حاسماً وقاطعاً وبلا رجعة. ظلّت تمشي في الشوارع بلا هدف فيما مشاعر الخوف كانت تتسلّل إلى قلبها وروحها رغماً عنها، وهي مشاعر ظلت رفيقة سناء سنوات طويلة. لم تستطع سناء رغم كل ما حققته من نجاح وتميز نسيان ما حدث، وفداحة الثمن الذي دفعته. لم تكن تتمالك دموعها إذا ما استعادت تلك اللحظات البائسة، فكانت دوماً تشعر بالخوف وكأنه شبح يطاردها وينثر القلق في داخلها، وهو ما اعترفت به في حوار تلفزيوني سجله معها الكاتب الصحافي مفيد فوزي، أكدت خلاله «ملكة الإحساس» أن شبح الخوف ولد معها يوم خرجت من بيت أهلها طريدة في عز الليل بعدما رفضت الطلب القاطع بطلاق الفن وصممت على استكمال المشوار. لم تتمالك دموعاً فرت منها وهي تصف ألمها وجرحها الكبير «المفتوح دوماً» بسبب مقاطعة أسرتها لها، والتي ينتشر أفرادها في طول البلاد وعرضها، (امتدت القطيعة إلى ما بعد رحيلها فلم يحضر العزاء أو الجنازة أي فرد من عائلتها). يقول زوجها الكاتب الصحافي لويس جريس: «عندما توفيت سناء جميل في 22 ديسمبر 2002، حرصت على نشر نعي في الجرائد الرسمية على أمل ظهور أي من أقاربها، كذلك تعمّدت تأخير الدفن ثلاثة أيام كاملة ولكن من دون جدوى. توفيت سناء يوم الثلاثاء ودفنت الجمعة وسط جمهورها وزملائها، وهم أهلها الحقيقيون الذين لم يخذلوها أبداً». المواجهة المؤكد، ووفقاً لاعترافاتها، أنها لم تشعر بقسوة آلام الوحدة إلا في تلك اللحظات التي ودّعت فيها منزل شقيقها وإلى الأبد. والغريب أنها لم تشعر بهذا الإحساس وهي تعيش في القسم الداخلي في مدرسة الراهبات «المير دي ديو«Le Collège De La Mère de Dieu، (تلك المدرسة التي أودعها فيها شقيقها بعدما فقدت والديها واضطرتها الظروف إلى أن ترحل عن مسقط رأسها مدينة «ملوي» في محافظة المنيا عروس صعيد مصر، حيث كان والدها يعمل محامياً في المحاكم المختلطة التي ألغيت عام 1936، ولم يمهله القدر للبحث عن عمل آخر)، كانت قادرة دوماً على التواؤم مع هذا الوضع، فاعتبرت المدرسة بيتها الذي تأنس بجدرانه وشعرت داخله بالأمان والطمأنينة. لم تعتبر وجودها تحت سقف المدرسة «وضعاً مؤقتاً»، بل كان بيتها الذي لا تعرف غيره، والراهبات كنّ أمهاتها. أما زميلاتها في المدرسة فكنّ شقيقاتها. ساعدها على ذلك صغر سنها، خصوصاً في تلك الفترة التي دخلت فيها المدرسة، إذ كانت غير ملمّة بحقيقة ما حدث لوالديها، ولا سر تواجدها على هذا النحو وطوال هذه السنوات، فهي لم تفارق المدرسة إلا في إجازات قصيرة أمضتها في منزل شقيقها قبل أن تضطرها الظروف إلى الإقامة الدائمة معه بعد انتهاء دراستها وحصولها على «الباشو» أو التوجيهية. المؤكد أنه رغم كل ما حققته سناء من نجاح وتميز، وإشادات بموهبتها والتزامها الأخلاقي والفني، فإن إصرار أهلها على هذه القطيعة لم يكن مفهوماً بالنسبة إليها، خصوصاً مع حرصها على إبقاء سمعتها وسيرتها الشخصية بعيدتين عن أية شبهات، حتى عرفت في الوسط الفني بأنها الفنانة الصعيدية الأكثر حرصاً على العادات والتقاليد، لذا ظلّ إحساسها بافتقاد الأهل «غصة مريرة» في قلبها لم تداوها الأيام أبداً. كانت تشعر دوماً بأنها وحيدة «عارية» بلا سند أو «ظهر»، كما اعترفت مراراً، ما دفعها إلى أن تعتبر الفن سندها، وجمهورها أهلها و«عزوتها»، ثم كان القدر رحيماً معها فرزقها بزوج محب شعرت معه بالأمان ومنحها الدفء الذي افتقدته وحرمت طويلاً منه، وكلما عصفت بها الذكرى وعاودتها الآلام كانت تضاعف من نشاطها الفني وتشعل موهبتها لتحصد مزيداً من النجاح لعل وعسى يذيب ما في داخلها من وجع. في تلك الليلة حالكة السواد قررت سناء عبور الحياة بقوة إرادتها، تعلمت ضرورة المثابرة في مواجهة الصعاب ومجمل التحديات وأصرّت على مواصلة طريقها الذي اختارته بوعي ويقين ومن دون ندم، والأهم بلا تنازلات على أي مستوى حتى لو أدى ذلك إلى ابتعادها عن الفن الذي عشقته وضحّت لأجله بالكثير والكثير. قررت أن تلملم جراحها وترتّب أفكارها بحثاً عن مخرج لأزمتها، فتذكّرت أستاذها في المعهد وصديقها الفنان سعيد أبو بكر وزوجته الإيطالية، فحزمت أمرها وقررت التوجه إلى منزلهما لتبيت ليلتها فيه إلى أن تتدبر أمرها لاحقاً، إذ لم تكن تملك مالاً يسمح لها بالإقامة في أحد الفنادق مهما كان متواضعاً. رفض التطبيع ضربت الفنانة سناء جميل مثلاً في الوطنية حينما رفضت عرضاً يسيل له اللعاب من التلفزيون الإسرائيلي، لشراء قصة حياتها وعرضها على القنوات الإسرائيلية المختلفة وتسويقها لمحطات أخرى عالمية. كذلك رفضت إجراء أية أحاديث صحافية لصحف ومجلات إسرائيلية. وفي الوقت نفسه، سافرت عام 1969 إلى عمان للمشاركة في بطولة فيلم «فداك يا فلسطين» إلى جانب أبطال المقاومة الفلسطينية.

مشاركة :