التَّصْنِيفُ والاسْتِعداءُ كحَبْل الحَلَبَةِ..! 1-2

  • 7/23/2013
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

المصارعة الحرة من أحط أنواع الرياضة في نظري، ومن أكثرها جاذبية. وحاشا أن تكون امتداداً لمصارعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأشدِّاءِ من خُلَطائِه ، وإن اجتمعتا في التسمية. عَرَفْتُ المصارعة الحرة منذ النَّشْأة الأولى لافتتاح محطة التلفاز في المملكة، يوم أن كان لا يتاح لنا سواها. وكنت إذ ذاك قد عُيِّنْتُ مدرساً في [ضرماء] التي كانت إَذْ ذَاك كما وصفْتها في قصيدة هي الأولى والأخيرة: [بَلَدً أصاب فِجَاجَها إعْصار.. فَسَماؤها مَسْجورة غبراء]. ولمَّا لم يكن لدى الناس أجهزة تِلْفازِية في بيوتهم، فإن هوات المصارعة يتكدسون في مقهى [المحطة]. وكان من أشهر المعلِّقِين يومها المرحوم [عبدالعزيز الراشد]. وكنت لا أجد بداً من البحث عن مُسَلِّياتٍ، أقطع بها ضَوائِق الغربة، والتخفيف من أعباء التدريس. ومن ثم أذهب على استحياء مع الذاهبين، وأتابع المصارعة مع المصارعين. وكنا نَسْتَخِفُّ بالمصارع الذي يَلْجأ إلى الحبال، حين يرهقه الخصم، أو حين يشرف على الهزيمة، ليفوِّتَ على خصمه لذَّة النصر. تذكرت ذلك، وأنا أقرأ بين الحين والآخر جنايات بَعْض الكُتَّابِ عندنا، وَتَعَدِّيهم على حُرمات الغير. وبخاصة حين يلجأ الكاتب إلى تصنيف خصومه، تمهيداً لاستعداء السلطات عليهم. وكاتبٌ يُغَلِّب الانتصار بأي ثمن على الحق، ضرره أكَبر من نفعه. والمشاهد الثقافية قد تُبْلى بهذا الصنف الرديء من الكُتَّاب، ولاسيما أنهم يَجِدون من يُحَرِّضهم على التجريح، وافتراء الكذب، ليتحول الجدل إلى مراء، والحوارُ إلى تنازع مُفْشِلٍ، ومُذْهِب للرِّيح. والمشهد حين يعلو فيه القتام، تَنْحطُّ القيم، وقد لا يجد من ينفي عنه الموجِفين بالبُهْتِ، والمشاهد حين تَتَلَبَّس بهذه الأخلاقيات، يتحاماها حَمَلةُ الكلمةِ الطيبة، لتخلو لهذا الصنف من المجازفين، ومن ثم يؤذن بالتصوح، ثم لا يكون بُدٌّ من رعي الهشيم. ولقد أكون ابْنَ بَجْدَةِ هذه المشاهد، وشاهدٌ من أَهْلها، إذ عِشتُها منذ نصف قرن، ولا فَخْر، وعرفت دخائلها،وإخفاقاتها، وتجلياتها. ومن هنا فلا مجال للمزايدة عَلَيَّ، أو الادعاء بأنني متطفل عليها. كنت طرفاً في صراعات عِدَّةِ، أنتصر مرة، وأغَطِّي تراجعي بلغة الاحتمالات مرة أخرى، وأُسلِّم لخَصْمي، حين يُجْرِي اللهُ الحقَّ على لسانه. وفي هذه المعَامِعِ عَرفْت خُصُوماً شرفاء، واسْتَفَدْتُ من تجاذب الآراء مع البعض منهم، وترفعت عن مخاطبة المُسِفِّين. وأدركت فيما بعد تقصيري في إدارة بعض الصراعات. وتعلمت من خصومي طرائِق ومعارف، لم يتهيأ مِثلُها لمن جنحوا للسلم، وآثروا السلامة. وأيْقَنْتُ أن العاقبة للكلمة الطيبة، والقول السديد. وكيف لا تستوي لُغَةُ الوَقَّافِ عندَ الحدود، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أزعم ذلك، ولا أزكي نفسي، امتثالاً لأمر الله: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}. واللجوءُ إلى تصنيف الآخرين، لإضعافهم، وتشويه سمعتهم، أو استعداء السلطة عليهم، لتخويفهم ظاهرةٌ جدليةٌ مَفْضُولة، عُرِفَتْ في التاريخ الحضاري. والمتعقب لكتب الجرح والتعديل، وتاريخ الرجال، وكتب المناقب، وجدل المذاهب، يقف على أمشاج من ذلك. وقد تَصَدَّى بعض العلماءِ المنصفين لمثل هذه المقترفات، وفَنَّدوا كثيراً من تلك الاتهامات. وإذ يَسُوؤُنا مثلُ تلك الجنايات، فإننا نعلمُ يقيناً أنَّ صِراعَ الحقِّ والباطل أزليٌّ، ولا يمكن حَسْمه بِجَرَّة قلم، ولكن الموعظة حق على كل مقتدر، معذرة إلى ربهم، ولعلهم يهتدون. ومن الظواهر السيئة في مشاهدنا الفكرية، والأدبية، والسياسة التسرع في الأحكام، والجرأة على الفتيا، واستمراءُ خطيئة التصنيف، والاستعداء، واستدبار القضايا، والقول في النوايا. وتلك خصال تَصمُ المتلبسين بها من كل الأطراف، إذ لا نزكي على الله أحداً، ولكل طائفة سُفهاؤها الذين يجنون عليها، مثلما جنت براقش على أهلها، وكل الناس خطاؤون، وخيرهم الذين يتوبون من قريب. ومن ادَّعى العصمة من الخطأ، هلك وأهلك. والإشكالية ليست في الخطأ ابتداء، ولكنها في الإصرار عليه، وويل لمن أخذته العزة بالإثم. وما أكثر المعاندين، والمنكرين لأخطائهم، والمعتزين بآثامهم. وويل لمن لم يجد المرايا المقعَّرة التي تريه ذاته على حقيقتها. ومَنْ مِنَّا لا يحتاج إلى مُذَكِّر. والقرآن الكريم تَعَقَّب مبادرات الرسول -صلى الله عليه وسلم- البشرية، فثناه عنها: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}. {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم}. {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}. {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} {‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}. ومما أدركنا من كلام المجربين الأوائل القول: بأن المقدمات الخاطئة، تؤدي في النهاية إلى نتائج خاطئة. والذين يفترون الكذب على مخالفيهم، يُصِرُّون على كتابة المقدمات الخاطئة؛ ولقد يَجُرُّ الافتراءُ إلى افتراء مضاد، وفي هذه الأجواء، تُفْقَدُ المصداقية، وتَشِيعُ قالة السوء. وهذا ما نلمسه من بعض الأطراف؛ وأخطر شيءٍ على حملة الأقْلام استمراء الكذب، وكيف يستسيغ البعض تلك الخليقة، والمسلم يكون جباناً، ويكون بخيلاً، ولكنَّهُ لا يكون كذَّابا. وحسب الكَذَّابِ أن يُكْتب عند الله كذَّاباً. لقد استأت من تلك الظاهرة، وأَحْسَسْتُ أنَّ مشاهِدنا بحاجةٍ ماسة إلى حَمْلةِ تطهيرٍ، تنفي عنها تراكم النفايات، وتكشف زيف الكتَّاب الذين يسيئون، ولا يحسنون. وكم من مُفْترٍ ألَجُّ من خنفساء، حين ترهقه البراهين، وتلجمه الحقائق، وتُكَسِّر مجاديفه أمواج الحق، لا يفتأ يُحَاول العبور إلى مُضْمراته، المتمثلة بإشاعة الإفك على من يخالفهم الرأي. والخطورة حين تشيع تلك الخطيئة في أوساط المتدينين الذين يَدَّعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. وليس بمستغرب، ولا مستبعد أن يتلبس المتدِّين بتلك الخصال الذميمة، ذلك أن الشيطان تَوعَّد أن يقعد للمكلفين صراط ربه المستقيم، والصراط المستقيم لا يسلكه إلا الملتزمون، ومُقْتَرفُ المتَدَيِّن مُغَلِّظُ العقاب، كالأشَيْمط الزاني، والعائل المُسْتكبر. وليس في مقدور أحدٍ أن يدَّعي أنه فات الشيطان، أو أنَّه نفذَ من حبائله. وكيف يتأتى ذلك، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وتكمن فيه نَفْس أمَّارة بالسوء، ومن حوله قرناء سوء، يُزَيِّنون له سوء عمله، ليراه حسنا. يتبع...

مشاركة :