هل من العدل أن نؤلف كتابا يعيد لنا مشاعر المرارة والإذلال والوجع الجسدي من أجل أن يتعرف القراء إلى مكابداتنا. العربلطفية الدليمي [نُشرفي2016/11/06، العدد: 10447، ص(11)] على الضد من الكاتب الأسباني خورخي سمبرون لن أكتب مذكراتي؛ فأنا أكتب لأواصل ممارسة النسيان الطوعي، أحتفي بما تبقى من حياتي بكتابة تمتعني، أواصل التخيل لا التذكر، أتلذذ بما أصنع لا بما سببه لى الآخرون من ألم، أكتب لأكون كما أتشهى لا لأستعيد زمنا افترسته الأهوال. سئل سيمبرون: لماذا لم تكتب الرواية إلا بعد عمر الأربعين بعد أن بدّدت عمرك في العمل السياسي؟ رد سيمبرون: هناك سببان، الأول أنه مرّ 15 عاما على خروجي من معسكر بوخنوالد النازي وشعرت أن هناك مدى زمنيا كافيا يفصلني عن تجربتي المريرة في المعسكر كي أستطيع التحدث عنها دون أن تستحوذ عليّ فكرة الموت، لقد أصبحت شخصا آخر وبدا الأمر كما لو أنني أروي قصة شخص ما غريب عنّي، والسبب الثاني أنني كنت أعيش وأعمل باسم مستعار في أسبانيا الفرانكوية مع شخص اسمه مانولو وقد روى لي قصة اعتقاله في معسكر ماوثاوزن النازي في النمسا، واكتشفت أنه لم يشأ سرد القصة على حقيقتها وأحبطني ذلك لكنه منحني جرعة من شجاعة لألتفت إلى الوراء وأدوّن تجربتي الشخصية عن الاعتقال في كتاب “الرحلة الطويلة” وكأنني أردت قول ما أخفق مانولو في سرده. اتسمت حياة سيمبرون بالتنوع والتحولات ما بين النفي ومقاومة النازية مع الفرنسيين وعمله باسم مستعار ضد استبداد فرانكو ثم عمله مع اليونسكو وتسلمه منصب وزير الثقافة الأسباني في حكومة الاشتراكي فيليبي غونزاليس في العام 1988 ليترك الوزارة بعد ثلاث سنوات وفي باريس كتب كتابه الأبرز “الأدب والحياة”. اختار سيمبرون ما يسميه “فقدان الذاكرة الطوعي من أجل مواصلة الحياة” بعد تحريره من معتقل بوخنوالد في العام 1945 لأنه كان عاجزا عن تحمل ما خلفته عذابات سنيّ المعتقل النازي في روحه وجسده ولم يفارق حالة الصمت الطوعي إلا في العام 1951 حين عاود نشاطه السياسي ودخل سرا إلى أسبانيا تحت اسم مستعار. هكذا هي حال الكتابة عن سنوات المكابدات: يعمد البعض إلى تدوين مذكراته الأليمة تخلصا منها، ويختار بعضنا الصمت الطوعي عن أهوال شهدناها ونتجنب عيشها مرتين، نخشى استعادة الألم الذي تجاوزناه زمنيا لكنه لم يغادرنا عمليا بعد أن توضّع في أعماقنا وترك ندوبه في أرواحنا؛ فعندما نوقظ تلك المواجع الراقدة لندوّنها نلقي بأنفسنا طوعا في دوامة لا نهائية من الآلام التي تستعاد معها لذعة المرارة وتُستذكر محن ومهالك؛ فينهض وجع مريع يعتصر أرواحنا، نستدعي أيام البحث المضني بين معتقلات المدن عن أفراد أسرنا المعتقلين؛ فيكتسحنا إعصار حزن مرير ونحن نسترجع تلك الوقفات المذلة أمام الجلادين والسجانين الذين صادروا حرياتنا ودمروا أجمل سنوات حياتنا. عندما نناقش أمر الكتابة يبرز أمامنا تساؤلان هما: - لأيّ غاية يتعرض الإنسان لصنوف العذابات وتصادر مباهجه وأحلامه طوال العصور؟ - هل من العدل أن نؤلف كتابا يعيد لنا مشاعر المرارة والإذلال والوجع الجسدي من أجل أن يتعرف القراء إلى مكابداتنا؟ منذ سنوات يحرّضني أصدقاء مقرّبون على كتابة سيرة شخصية بصيغة روائية أو صيغة شهادة أدبية على زمننا؛ فأحاجج نفسي: ما الذي أرجوه من تدوين هذه السيرة؟ لماذا أكابد الألم مرتين، الأولى عند معاناتي له حقيقة على أرض الواقع والثانية لدى استعادته مكتوبا في كتاب؟ أحاجج أصدقائي: لا أظنني سأفعل، حسبي أنني عشت تلك الحياة المشحونة بالحوادث والمكابدات القاسية فلأدع أيامي المتبقية تنعم بسلام النسيان أو التجاهل المقصود لوقائع الألم. كاتبة من العراق لطفية الدليمي :: مقالات أخرى لـ لطفية الدليمي أكتب لأحيا , 2016/11/06 كهنة وأباطرة وحروب, 2016/10/16 اختلال الثقافة ومفهوم المواطنة , 2016/10/09 تدهور الحضارة الغربية لـإشبنغلر, 2016/10/08 المواطنة العراقية الفولكلورية, 2016/09/25 أرشيف الكاتب
مشاركة :