نوفمبر جلَّ جلالك فينا ** ألست الذي بثَّ فينا اليقينَ تغزل شاعر الثورة الجزائرية بشهر نوفمبر/تشرين الثاني الذي شهد انطلاق واحدة من أعظم الثورات في التاريخ الحديث، ثورة واجهت أعتى القوى الاستعمارية في التاريخ، فكانت بحق ملهمة لكل الشعوب المستضعفة في العالم، كيف لا وقد كان وقودها دماء مليون ونصف المليون من الشهداء ناهيك عن المهجرين والمشردين في العالم؟! ثورة تمردت على كل ما هو مألوف في مسار الكفاح التحرري. شباب واعٍ بالتاريخ لم يكن يخطر ببال مصطفى بن بولعيد، ولا ديدوش مراد ورفقائهما، أن اجتماعهم الذي كان بمنزل إلياس دريش في 25 يونيو/حزيران 1954 سيغير التاريخ، خاصة أن عددهم لم يتجاوز الاثنين والعشرين شاباً، لا غطاء سياسي لهم، ولا ظهير شعبي يسندهم، لكن إيمانهم بقضيتهم وإدراكهم للتوازنات الدولية جعلهم يعزمون على القيام بالثورة، فقد خرجت فرنسا من الحرب العالمية الثانية منتصرة بطعم الهزيمة، ذلك أنها احتلت من طرف الألمان، ولولا تدخل الولايات المتحدة الأميركية لما قامت لها قائمة، زد على ذلك أنا تلقت هزيمة نكراء في معركة ديان بيان فو سنة 1954 على يد "الفيت منه" في فيتنام، وإذا ما أضفنا أن العالم كان يعيش في تلك الفترة في ظل الحرب الباردة، فإننا نتأكد أن هؤلاء الشباب قد أدركوا أن اللحظة التي يمرون بها هي لحظة تاريخية وجب استغلالها؛ ليبقى الهاجس الأكبر الذي أرقهم هو مدى استجابة الشعب لفكرة الثورة، هنا برزت الرؤية الثاقبة التي يتمتعون بها؛ إذ قام الشهيد العربي بن مهيدي وقال كلمته الخالدة: "ارموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب". الشعب يحتضن ثورته: تلقى الشعب الجزائري نداء الوطن واستجاب لدعوة القيادة الشابة للثورة، فأبهر العالم بتضحياته وتفانيه في سبيل تحقيق الاستقلال، شاركت المرأة إلى جنب الرجل في مهمات متعددة، والتحق الطلبة بالثورة أفواجاً، وتأسست مختلف التنظيمات الجماهيرية، في ظاهرة فريدة لتأطير الشعب، وجعله يلتف حول ثورته، مما جعل الثورة الجزائرية ثورة تتميز بتنوع أساليبها، وتعدد وسائلها، واختلاف شرائحها. بين نوفمبرَين: يُجمع علماء الاجتماع على أن الشعوب التي خاضت ثورات تحررية تمتلك قدرة هائلة على البذل والعطاء بسخاء لبناء الأوطان عند الاستقلال، لكن الذي حدث في الجزائر كان عكس ذلك، فقد دخل رفقاء السلاح في صراع مرير فيما عرف بأزمة صائفة 1962 بين قطبين رئيسييْن "جماعة تلمسان وجماعة تيزي وزو"، انتهت بانتصار جماعة تلمسان لامتلاكهم قوة عسكرية كبيرة جداً -جيش الحدود- بقيادة هواري بومدين، فدخلت الدولة الفتية في صراع زعامات كادت تودي بها إلى حرب أهلية، مما أدخل الشعب في دوامة التأييد والرفض للواقع الجديد، وما زاد الطين بلة سياسة الإقصاء التي تبنتها السلطة الفتية، خاصة مع انقلاب 19 يونيو 1965 لرموز وطنية كبيرة، الشيء الذي جعل السلطة محتكرة من طرف تيار بعينه، قام بتزوير المسار الانتخابي على طول الخط، والأخطر من هذا كله تشويهه للوعي الوطني، فبين نوفمبر 1954 ونوفمبر 2016 لم يبق لدى الشعب اهتمام بالشأن العام، وحصر اهتمامه بالاستفادة من الرشى الاجتماعية التي توزعها السلطة (سكن، دعم فلاحي، سكن ريفي...)، دون إدراك للكارثة التي تحيط بالبلد، سواءً ما تعلق بالوضع على الحدود، أو الوضع الاقتصادي الذي يقود الجزائر للعودة للاستدانة الخارجية، والأدهى والأمَرّ هو شعور الشباب بعدم الانتماء للوطن، نتيجة للتهميش والتغييب المتعمد عن المشاركة في صناعة القرار السياسي، فمع طلوع فجر جديد يشد كثير من الشباب الرحال نحو أوروبا عبر قوارب الموت فراراً من الموت. أمل مفقود كان يمكن للجزائر أن تصبح يابان إفريقيا لو أن السلطة الجديدة عند الاستقلال لم تغتَل الثورة، كما قال الرائد "لخضر بورقعة"، لكننا ندفع ثمن سلطة لا تؤمن إلا بنفسها، شعارها في ذلك قول شاعر الثورة وبتصرف منها: ولولا العقيدة تغمر قلبي ** لما كنت أؤمن إلا بنفسي ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :