في رواية المغربي فؤاد العروي، «العودة إلى كازابلانكا» (دار الساقي- ترجمة لينا بدر)، الحائزة جائزة جان جيونو العام 2014، يعيش القارئ حكاية ممتعة بأسلوب سردي فيه من السخرية الجميلة والواقعية السحرية ما منحها جمالية عالية. وبدت المترجمة السورية موفقة إلى حد بعيد في نقل جوّ الرواية المشحون بالانفعالات والمشاعر والثري بالإسقاطات والتناصات التي تنم عن ثقافة عالية يتمتع بها المؤلف، والتي تفتح الرواية على واحات منوعة من الثقافة الأوروبية، والعربية أيضاً. آدم السجلماسي مهندس في شركة كبيرة في الدار البيضاء، ذو ثقافة عالية درس في فرنسا، متزوج ويعيش مع زوجته بمستوى الطبقة العليا في المجتمع. أمضى ردحاً من عمره في وظيفته مسافراً في رحلات عمل وصفقات، وفجأة يداهمه سؤال وجودي- وهو في الطائرة فوق بحر «الأندمان»- على ارتفاع ثلاثين ألف قدم، في طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت: ماذا أفعل هنا؟ ليتردد الصدى في خلده: أنت تعيش حياة شخص آخر. استعاد «أزمور» مسقط رأسه، متذكراً جدّه ووالده اللذين لم يتجاوزا سرعة حصان أو بغل يركبانه في تنقلاتهما، في حين كان هو «أول واحد من السلالة يبلغ هذه السرعات الخارقة. وما فائدتها بحق الآلهة؟». وبينما كان أزيز الطائرة يهدهده، «أدرك آدم أن هذه هي المرة الأخيرة التي يطير فيها جسمه بسرعات تتحدى الخيال»، فكانت هذه بداية النهاية بالنسبة إلى المهندس سجلماسي. اتخذ قراره أخيراً بالعودة إلى مسقط رأسه باحثاً عن نفسه، أو ربما عن المعاني في تجربة أخرى بعيداً عن صخب العصر واستلابه الإنسان، فقرر الرجوع من المطار سيراً على الأقدام، لتبدأ الحياة تتكشف أمامه عن واقع آخر لم يكن يعرفه. قدّم استقالته وتنازل عن كل مكتسبات الوظيفة مما أحدث شرخاً بينه وبين زوجته التي تبين أنها تزوجت المكانة (البريستيج) الاجتماعي، واعتبرت تنازله عن كل هذا ضرباً من الخلل العقلي يلزمه علاج فأقنعته بمراجعة طبيب نفسي. لكنه تابع في رحلة استكشافه الوجودي ورحل سيراً على قدميه، مقلداً أو متماهياً مع حياة أجداده، حتى مسقط رأسه أزمور. هناك دخل بيت العائلة الكبير كآخر سجلماسي في العائلة، حيث سكن في زمن ما جدّه وكانت له زاوية وكان صاحب طريقة، فيكتشف صندوقاً من الكتب القديمة ويتعرف إلى ابن طفيل وابن رشد وغيرهما، ويكتشف بقراءتهما- هو المتشبع بالثقافة الفرنسية- أن العقلانية العربية الإسلامية التي ظهرت في القرن الثاني عشر كانت النواة التي انبنت عليها عقلانية الغرب في القرن السادس عشر. هذا ما حرّض في ذهنه السؤال عن سبب القطيعة بين تلك الفترة المزدهرة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية بعقلانيتها وبين الحاضر تاركة الفضاء العربي فارغاً من كل اجتهاد عقلاني، وهو ما ساعد على ظهور التيارات المتطرفة بأفكارها السلفية المتحجرة. من هنا تبدأ الحكاية الظريفة العامرة بالمفاجآت والتي من خلالها يوصل العروي مقولة الرواية العريضة في مجتمعات كمجتمعاتنا، وفي لحظتنا الراهنة: العقل أم النقل؟ ودور الأنظمة الحاكمة في تكريس الصراعات الطائفية والمذهبية، إضافة إلى تسخير الدين في خدمة مصالحها. يلتفت سكان الزقاق إلى وجود السلجماسي، حفيد الجد صاحب البركة، فتُحاك عمليات النصب والاحتيال. يدخل «أبو عزة» يومياً الى المنزل ثم يدلي بقناني المياه الممتلئة في بئر البيت الكبير الذي نضب منذ زمن، ثم يخرجها ويبيعها للناس على أنها مياه مباركة من بئر السلجماسي، بمباركةٍ من بصري الشرطي الذي يمثل الحكومة أو المخزن باللهجة المحلية، ثم نادر صديق عبد المولى ابن عم آدم المتعصب لدينه المتمسك بحرفية النص. نادر الذي ينتهز فكرة طرحها آدم تقول بأن الرجل الثاني في كل رسالة هو الذي يكرس التشريعات، مثلما هو الخليفة عمر بن الخطاب، فيتسلل نادر إلى الغرفة المهجورة حيث كانت سابقاً تقام فيها حلقات الذكر، ويصبح له مريدون ويتقمص شخصية الرجل الثاني بينما آدم لا حول له ولا قوة في المهزلة الواقعة. وحتى العمة المسنة التي تعيش في البيت الخاص بالعائلة كانت تقبض مالاً لقاء تأجير البئر وتأجير غرفة الزاوية. تزامن وجود آدم في مدينة آزمور مع بدء إجراء الانتخابات البلدية فيها، وقد ترشح للفوز في سباقها حزبان: واحد حداثي يمثله المحامي دحمان وهو أحد الإداريين بالدولة وآخر تقليدي يمثله الشيخ باسين وهو أحد الأحزاب الإسلامية. سعى «البصري» إلى تحفيز آدم على تأييد حزب الدولة ممثلاً بالمحامي دحمان باعتباره حزباً عقلانياً معتمداً في إقناعه على ثقافته التي حصلها من دراسته قبل سلك الشرطة، وبأن الدولة، مهما كانت أخطاؤها فهي تقبل الآخر، بينما في حزب السلفيين لا يقبلون الآخر ويصادرون الفكر المختلف. تنتهي الرواية بمشهد زاخر بالكوميديا السوداء حيث تنطلق تظاهرتان تتقسمان شارعاً رئيساً، «وهكذا أصبح الشارع في ذلك اليوم، اجتاحه الرعاع بسرعة، انقسم بالاتجاه الطولي إلى اثنين: على الميسرة رتل من الصعاليك المتجهمي الوجوه، والكائنات المحجبة التي يستنتج أنها نساء، وعلى الميمنة رتل أقصر، من الصوفيين المزعومين بقيادة الحكومة الثنائية بوعزّة- نادر». يمشي آدم في الوسط وهو يفكرّ: «في الواقع، كان يمكن المخزن والشيخ باسين أن يتفقا ذات يوم حول ذلك. إقصاء أولئك الذين يشبهونني»، فتتحقق نبوءته هذه إذ تبدأ الهتافات المستفزة ويشتبك المتظاهرون ليتلقى آدم ضربة على رأسه تدخله المستشفى ويصمت بعدها منزوياً في كوخ على الشاطئ شبه عار، أشعث الشعر، نحيلاً مثل راهب هندي. هل هو مجنون؟ عند ذاك، صار سرّ عائلته، عارها، موضوعها المحرّم. تصرفوا كأنه مات، فهو لا يريد العيش. «لو رويت هذه القصة الغامضة إلى فلاسفة ومفكرين سياسيين، لأكّدوا، هم القدريين، بأن آدم هو الإثبات بأن الدولة تنتهي دائماً بالانتصار. «سواء استعادتك، أو وضعتك خارج اللعبة». الدولة، صاحبة السلطة، وهي زمرة من الرجال المسلحين، تكسب دائماً. ربما يكون ذلك في حينه، انتصاراً لا قيمة له أبداً: فالنصر لا يكون مقابل من رفض المعركة، أو ضد من يتنازل». بهذه العبارات ينهي فؤاد العروي نصّه، خالصاً إلى نتيجة مفادها أنّ «الانسحاب، هذا هو الانتصار الحقيقي، قد يكون على حق في كل شيء، وعلى حق ضد الجميع: هو، آدم، العاري على شاطئه، العاري مثل الإنسان الأول». «العودة إلى كازابلانكا» رواية ممتعة غنية بأسلوبها السردي الرشيق ولغتها السلسة والترجمة الموفقة.
مشاركة :