توفي الفنان المسرحي الكبير المنصف السويسي الأحد الماضي. ونقدم هذا المقال للاطلاع على حيز مهم من تجربته الواسعة ومسيرته الكبرى وولعه المخصوص بالمسرح، وذلك من خلال الشهادة التي قدمها خلال اللقاء الأول لمنتدى "الموعد الثقافي" بدار الثقافة "أحمد بوليمان" بباب سويقة حيث كان الجمهور على موعد مع الفنان والمسرحي المنصف السويسي وذلك في استعراض لمسيرته الابداعية في المسرح، ادارة وتمثيلا واخراجا. "الموعد الثقافي" الذي كنت أديره الذي انطلق كلبنة ثقافية أخري لتحريك السواكن والنبش في تفاصيل تجارب في عوالم الفن والثقافة والاعلام عبر استقبال عدد من الوجوه الابداعية في تونس اضافة الى ما يمكن أن تثيره مثل هذه اللقاءات في مشهد تونسي متحرك وفاعل في محيطه العربي والعالمي. المنصف السويسي مولود بالحلفاوين أحد أعرق أحياء تونس العاصمة وذلك في أول ايام سنة 1944 حيث درس المسرح من سنة 1962 الي سنة 1967 كما درّس المسرح الى حدود سنة 1983 بالمهجر في بلدان عربية ومشرقية ثم أدار المسرح الوطني من 1983 الى 1987، وأسس كذلك أيام قرطاج المسرحية وخلال عشر سنوات داخل فضاء المسرح الوطني وخارجه. وكان أول عمل مسرحي له هو صغيران في اقتباس لمحمد الحبيب وإخراج العقربي وذلك بفرقة بلدية تونس للتمثيل العربي، وإخراج اول عمل في اقتباس عن برتولط برخت بعنوان "لاك عرفي ولاني صانعك" . وقد كانت له مشاركات عربية كثيرة من ذلك "واقدساه" مع اتحاد الفنانين العرب مع نخبة من الوجوه العربية المسرحية ضمن المسرح القومي المصري الذي لم يُخرج فيه أحد غير المنصف السويسي آنذاك. ثم عاد للكاف من 1995 الي 2000 ضمن مركز الفنون وأدار المسرح وله مؤسسة خاصة، واشتهرت مسرحياته منها "باي باي لندن" وقد تعددت أعماله لتفوق 50 عملا مسرحيا. وفي فترة الكاف الأولى عرف بالمسرحية الشهيرة "الهاني بودربالة" عند تأسيس فرقة الكاف ليغادرها الى فرقة مدينة تونس ثم تأسيس مهرجان البحر الابيض المتوسط للمسرح سنة 1975 ليدير فيها بعد ذلك فرقة مدينة تونس الى حدود سنة 1977. وأسس كذلك عدة فرق واعمال مسرحية في الدول العربية منها قطر والامارات العربية المتحدة والكويت، وفي فترة التدريس تتلمذ على يديه عدد من المسرحيين المعروفين منهم المصرية: فائزة كمال وداوود حسين وسعاد العبدالله من الكويت، حيث عمل كمكون للممثلين ومخرج فضلا عن تدريس المسرح. في شهادته حول تجربته المسرحية تحدث الراحل المنصف السويسي عن النشأة والولع بالمسرح ومجمل التجارب والأعمال التي عايشها وخاضها فضلا عن رؤيته للمسرح في تلك السنوات منذ منتصف القرن الماضي وصولا الى الراهن المسرحي وأهم مكوناته وأفكاره الكبرى. وقد جاءت مجمل أفكار وخواطر شهادته كالتالي: ".... شيء جميل ان ينشأ هذا النادي وأكون ضيفه الأول ويأتي ذلك في زمن التغريب الثقافي وخصوصا في منطقة باب سويقة حيث ولدت وعشت في هذا الحي الى ان ذهبت الى فرنسا وعدت الى الكاف، انا أجل منطقة باب سويقة فهي معقل من معاقل النضال الوطني وقديما منذ العهد الاسباني كانت هذه الجهة من مدينة تونس خلاصة هذا الانتماء التونسي ففيها كل الشرائح والرؤى والقيم ومنها التواضع ونبذ الوصولية، فزعماء تونس وغيرهم من رجالاتها ونخبها من هذه البيئة ومنهم والدي عزالدين السويسي، فهناك بطحاء العجائب وأدباء تونس مثل جماعة تحت السور والمقاهي الغنائية كما في شانطة. ومن الأسماء نذكر كرباكة وخليفة الاسطمبولي والهادي الجويني وشافية رشدي ومنور صمادح والصادق ثريا وغيرهم من الادباء والشعراء، حيث أسس بيرم التونسي جريدة المسلة، كما شهدت هذه الجهة من تونس الفداوي وهو الحكّاء المتجول أو ما يعرف بالمسرح السردي وصندوق العجائب والكراكوز ومسرح الدمي. كانت هناك أنماط وأشكال من الفرجة، وقد امتزج ذلك بالنضال وبالمدرسة العرفانية والكتاتيب وهو ما جعل الروح الوطنية تنطلق منذ الطفولة. والدي عز الدين السويسي كان ينتمي لأسرة المسرح والصحافة، حيث كان هناك تداخل مهم بين الفنون والاعلام والأدب والنضال. وقد أسس صحيفة "الاخبار" وفيها مواقف لا تروق للاستعمار آنذاك. وأسس ايضا أول فرقة محترفة وهي الفرقة البلدية للتمثيل العربي، وهي الآن فرقة مدينة تونس حيث كانت كلمة العربي في التسمية في أبعادها المعادية للاستعمار. وقد لعب الاسلام دورا حضاريا رائدا في بعث الروح النضالية ضد الاستعمار، وهذا كله ساهم في نسج كياني آنذاك. من أسباب حبي للمسرح، مسرحية مدينة تونس التي كان يديرها الراحل محمد عبدالعزيز العقربي وهي مقتبسة عن مسرحية ألكسندر دوما سنة 1958، حيث كان عمري 14 سنة وقد نجحت هذه المسرحية ايما نجاح، ولم أكن افهم ذلك المسرح حين كنت مرافقا لأبي وانا الطفل المشغول بالعلبة السحرية للمسرح وانطلقت من طريقة وأجواء الحلفاوين وتكونت عن أساتذة منهم محمد الحبيب وحسن الزمولي ومحمد عبدالعزيز العقوبي والذرقاطي وألكسندر ثيئي وفولون وفيفة والكعاك والمرزوقي. وهؤلاء علموني قيما مشدودة للوطنية والعروبة والاسلام بالمعني الحضاري والانساني. وتشكل وعيي بالمسرح باعتباره فنا يقاوم الظلم ويبحث عن الحق وينتصر للجمال ويترك للانسان مجالا ليعيش لبنونته، فالإنسان أسمي من معدته كما يقول فوركي، فالمسرح يتيح لنا فسحة حرة مع الخيال والمتعة بما يمنحه من سفر مع عوالم أخرى فيها التفاعل والتجاوب، آرمون فاتي وفابريال موني وجان فاسبي وغيرهم من الفرنسيين علموني الكثير في المسرح والحياة من ذلك الوظيفة الاساسية للمسرح رغم الوعي بأن المسرح مسارح والجمهور متعدد، ولكن هناك قواسم مشتركة، فالمسرح يعالجنا مع ذواتنا لذلك نري شكسبير وفوركي وموليار وتشيكوف وغيرهم، قريبين منا لطرحهم الانساني والحضاري في اعمالهم المسرحية. إن شأن الأمم يكبر بمسرحييها مثل شكسبير وخصوصا الذين لمعوا في عصور الملكة اليزابيث، إذن لا مجتمع عظيما بدون مسرح عظيم، يظل طموحي أن أقدم عملا يقنعني ولا طموحات لي خارج الابداع المسرحي. لقد أسست مهرجان البحر الابيض المتوسط للمسرح بكراكة حلق الوادي وحاولت تقديم عمل جميل على غرار ما شاهدته في الغرب من ذلك مثلا مهرجان المسرح في افينيون فاسترجعت تاريخ الكراكة وسعيت لتحويلها الى معقل ثقافي وهناك قدمنا 20 عملا مسرحيا. كانت هناك أجواء عمل متعددة مثل مسرح فو والمسرح الجديد وعبدالله رواشد وفرق اخرى جهوية، كل ذلك في كراكة حلق الوادي المشرفة على المتوسط ولكن هذا العمل لم يتواصل وفشل المهرجان بحكم المنطق السلبي المحلي الضيق، وحاولت ترميم ذلك الى ان هاجرت وقدمت استقالتي آنذاك في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، من فرقة بلدية تونس وأفادتني الهجرة وخصوصا في الجانب المادي، فأنا ضد ان يجوع الفنان وعائلته وسعيت لتحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يحفظ لي كرامتي، وقد ولدت أيام قرطاج المسرحية التي أسستها قوية واردت تمكين الآخرين من العمل وأنا أتمني الان، أن يقع إنقاذ هذا المهرجان الذي صار ينحدر من دورة الى اخرى ولي شجاعة في أن لا اخفي رأيي. في المهجر لي رحلة الى مصر وأخرى في تأسيس اتحاد الفنانين العرب وإخراج مسرحية "واقدساه" من بلدان عربية مختلفة. وأخرجت هذا العمل في المسرح القومي المصري وهو بمثابة التحية للمقاومة الفلسطينية، فالمسرح له دوره الحيوي في تشكيل المجتمع وذائقته الفنية واذا لم يعكس مجتمعه فهو مسرح فاشل، فالمجتمع الديمقراطي ينطلق من المسرح ففيه تقابل الاضواء، وفيه أيضا فرصة للحديث عن الذات. المسرح هو ذاك الذي يحدثنا عن جوهر وجودنا فنحن معنيون بما يحدث في العالم، ولا بد لنا من موقف وترقب واحتياط، فالمسرح إطار لتنشيط الحواس. انا أدعو الى مسرح جاد ينأي عن التفاهة والتهريج وكل انواع التسميم الثقافي، ثمة خلط كبير بين المفاهيم المسرحية من ذلك الإعادة وإعادة الرؤية وتجديدها. ولقد عشنا في السابق ملابسات في الاختيار المسرحي في مستوي الادارة والتوجيه، قضيتي هي المسرح واحلم بمسرح جيب في كل حي لاحداث الازدهار والرقي. المسرح هو الفنون مجتمعة فيه الفلسفة وعلم الجمال والتاريخ وهو يحكي الحياة وخلاصاتها، تلك الحياة الحرة والمتحررة في صلب الخيال. هذه معركتي الحقيقية والجوهرية ولا بد من الارتقاء بالسؤال المسرحي عاليا وبعيدا، لقد عشت التهميش في السابق وأنا وفي لبلدي واليوم كرمت واشعر بالاعتبار...". هكذا كانت الشهادة المسرحية والحياتية لمنصف السويسي الذي ألقاها بكثير من الصدق والجرأة والحرص في نبرة حالمة تجاه كل ما هو إبداع وانتصار لقيم الانسان الحقيقية وهو الأمر الذي أعطى اللقاء كثيرا من الحيوية والدفء وبذلك كانت تدخلات الحاضرين وهم من المثقفين وطلبة المسرح، تصب في عديد القضايا والمسائل سواء تلك التي أثارها السويسي او غيرها. وتمحورت هذه التعقيبات حول إعادة المنصف السويسي لعدد من أعماله والتنظير المسرحي والنقد والعلاقة مع الجمهور وراهن المسرح التونسي ومختلف اتجاهات ومدارسه وقضايا الهيكلة والتصنيف. وقد اجاب المنصف عن كل ذلك، مبرزا أهمية مراعاة وسائل الترويج للعروض المسرحية من ذلك فتح المدارس والمعاهد والكليات في فنون المسرح ودحض مقولة إن الناس لا يحبون المسرح خصوصا من قبل مديري المهرجانات والفعاليات الثقافية. وذكر ان المسرح التونسي له علامات منها تجارب فاضل الجعايبي وادريس وفرقة قفصة، مضيفا ان النصوص العظيمة في المسرح هي القابلة للتأويل وإعادة الرؤية مثل الممثل الكبير الذي ينجح في طرق تمثيلية وأنماط فنية وأدوار مختلفة.
مشاركة :