على الإدارة الأميركية المقبلة أن تنظِّم حملة دعم قوية لاتفاق الشراكة التجارية عبر الهادئ، ومن الضروري أيضاً أن تؤكد أهمية تحالفها العسكري الطويل الأمد مع اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايلند، والفلبين بالتأكيد، كذلك يجب أن تواصل تعزيز روابطها مع أصدقاء جدد مثل فيتنام، وتستمر في تعميق علاقاتها مع الهند. يتصدر رودريغو دوتيرتي، رئيس الفلبين الصريح والجريء، عناوين الأخبار نتيجة وجهات نظره المناهضة للولايات المتحدة الساخرة والمشينة أحياناً، ويهين هذا الرئيس باستمرار الولايات المتحدة، حتى إنه اقترح أخيراً أن هذه المشاعر العدائية قد تؤدي إلى تبدّل في السياسة. لا شك أن صدور هذا الخطاب عن قائد في منطقة تتمتع فيها الولايات المتحدة بعدد من الأصدقاء يفوق عدد أعدائها مقلق حقاً، لكن دوتيرتي لا يشكّل بالضرورة حالة استثنائية، على العكس باتت مصداقية الولايات المتحدة كقوة في المحيط الهادئ مهددة. تنظر أمم آسيوية كثيرة في المحيط الهادئ بعين الريبة إلى قدرة واشنطن أو استعدادها لتكمل عملية إعادة التوازن نحو آسيا التي نادت بها طويلاً، وتهدف سياسة إعادة التوازن هذه، التي أعلنها الرئيس أوباما أول مرة أمام البرلمان الأسترالي قبل نحو خمس سنوات، إلى تخصيص الولايات المتحدة المزيد من الالتزام والموارد للمنطقة، ولكن رغم تطمينات واشنطن الكثيرة وزياراتها الرفيعة الشأن، لا يبدو قادة آسيويون كثر مقتنعين بالتزام الولايات المتحدة، فلا تثق الحكومات الآسيوية بمستقبل القيادة الأميركية في المنطقة، وما يعزز قلق أصدقاء الولايات المتحدة الآسيويين معارضة ترامب وكلينتون المرشحَين الرئاسيين الأميركيين الشديدة لاتفاق الشراكة التجارية عبر الهادئ، لذلك يعمل البيت الأبيض، الذي يشكّل القوة الرئيسة وراء هذا الاتفاق، بدأب وجهد ليقنع الكونغرس بالتصديق على هذا الاتفاق قبل مغادرة أوباما منصبه. ويصيب مسؤولو الإدارة باعتبارهم أن هذا الاتفاق أساسي لقيادة الولايات المتحدة في آسيا، وأنه سيؤمّن فرصاً جديدة لقطاع الأعمال الأميركي، ولكن من المستبعد أن تحقق إدارة أوباما النجاح نظراً إلى المشاعر السائدة في الكونغرس الأميركي وقصر الوقت المتاح. ولكن إن تخلت الإدارة الرئاسية المقبلة عن اتفاق الشراكة التجارية عبر الهادئ، فلا شك أن مصداقية الولايات المتحدة في آسيا ستعاني ضربة قوية، وعلى نطاق أوسع ستكثر الشكوك حول قدرتها على الالتزام بأي اتفاق دولي في المستقبل. إلى مَن يلجأون؟ من المؤكد أن دوتيرتي وغيره من القادة الآسيويين في المحيط الهادئ يميلون إلى الابتعاد عن الولايات المتحدة لأسباب لا ترتبط بالقلق حيال القيادة الأميركية. يُعتبر بعض هذه الأسباب عملياً بالكامل، فعلى سبيل المثال تبدو الصين مستعدة لمنح الفلبين مليارات الدولارات هي بأمس الحاجة إليها لتحسّن بنيتها التحتية، علماً أن الولايات المتحدة تعجز عن مدها بمبالغ مماثلة. علاوة على ذلك تترتب على شركاء الائتلاف الأميركي كلفة اجتماعية عالية في الداخل نتيجة اضطرارهم إلى استضافة قواعد عسكرية أميركية، لطالما شكّل الوجود العسكري الأميركي في جزيرة أوكيناوا الجنوبية في اليابان، مثلاً، سبب توتر كبير بين السكان وحكومة اليابان. صحيح أن طوكيو ترغب في الحفاظ على التزام الولايات المتحدة الأمني الراسخ والمستمر، إلا أنها تود أيضاً التخفيف من العبء الذي يتحمله السكان المحليون لاضطرارهم إلى استضافة القوات الأميركية. وهذا هو التوازن الصعب عينه الذي يرى دوتيرتي نفسه مرغماً على التوصل إليه، توازن قد يستنتج أخيراً أن من المستحيل بلوغه. تفتقر واشنطن أيضاً إلى الوضوح في تحديدها التزامها تجاه آسيا، لكن هذا الغموض أفقد القيادات الإقليمية صبرها وأثار أحياناً غضبها، كما في حالة الرئيس الفلبيني، ويعكس تهديد دوتيرتي بتعزيز العلاقات مع بكين، تاركاً في الوقت عينه الولايات المتحدة في حالة من التأرجح، مخاطر عدم اكتمال عملية إعادة التوازن الأميركية. إن كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى مَن ينبهها لمخاطر التزامها المبهم بشأن آسيا، فهذا ما قام به دوتيرتي. نتيجة لذلك، على الإدارة المقبلة أن تنظِّم حملة دعم قوية لاتفاق الشراكة التجارية عبر الهادئ، ومن الضروري أيضاً أن تؤكد أهمية تحالفها العسكري الطويل الأمد مع اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايلندا، والفلبين بالتأكيد، كذلك يجب أن تواصل تعزيز روابطها مع أصدقاء جدد مثل فيتنام، وتستمر في تعميق علاقاتها مع الهند، التي تسعى على غرار الولايات المتحدة إلى تقوية التزامها في منطقة المحيط الهادئ الآسيوية بغية التصدي لنفوذ الصين المتنامي. أخيراً، على الرئيس الأميركي المقبل أن يحرص على ألا تُستثنى آسيا، التي تضم ثلثَي سكان العالم ونحو 40% من ناتجه المحلي الإجمالي، من السياسة الخارجية الأميركية، فالمصداقية الأميركية في إحدى أهم المناطق في العالم تتأرجح على شفير الهاوية.
مشاركة :