خيري منصور يروى عن رجل أعمال بالغ الثراء أنه كان يرفض أن تذهب طفلته الوحيدة إلى المدرسة في سيارة خاصة، ويصر على أن تذهب في حافلة مع زميلاتها، كما أنه كان يرفض شراء الألعاب لها، كي تلعب بمفردها في البيت، وحين سئل عن السبب أجاب بأن هدفه تربوي وبأنه يريد لابنته أن تشعر بأنها خيط في نسيج وفرد في جماعة، وذلك لكي لا يتضخم شعورها بالفردية. ولا بد أن هذا الرجل قرأ شيئاً من علم النفس التربوي، وأدرك أن روح الفريق في أي عمل هي سر النجاح، وأن الإنجاز تحققه الأوركسترا بقيادة مايسترو يضبط الإيقاعات وليس العزف المنفرد على طريقة الناي! إن ثقافة العزف المنفرد لا بد أن تنتهي إلى احتكار الصواب، وادعاء المعصومية وهذا ما حدث في النظم الشمولية التي لا تزال بعض الشعوب تعاني من إرثها الباهظ. حتى في المجالات العلمية التي ينسب فيها الابتكار إلى عالم بعينه هناك فريق بحث لولاه لما توصل العالم إلى إنجازه، لهذا غالباً ما تشير جائزة نوبل إلى الجنود المجهولين الذين ساعدوا الفائز بها في التجارب واختصار الوقت والجهد. لكن ثقافة الفريق وما تتطلبه من تناغم تشترط تأهيلاً تربوياً ولا تأتي من تلقاء نفسها أو بمحض المصادفة. ويبدأ هذا التأهيل من بواكير الطفولة ومن الروضة قبل المدرسة، بحيث يشعر الطفل أنه ليس محور هذا الكون أو أنه يستطيع الحياة بمفرده. وهذا ما تنبه إليه الرائد ابن خلدون حين كتب عن الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً، وعضواً في جماعة. وما يقوله علماء نفس التربية عن هذا التأهيل يتلخص في أن روح الفريق والالتئام في سياق اجتماعي يدجن الفردية ويحصنها ضد النرجسية. لهذا لم يكن ما أقدم عليه رجل الأعمال الذي أراد تنمية روح الفريق لدى ابنته الوحيدة مجرد رغبة في الاختلاف أو توفيراً لنفقات، بل لأنه من خلال قراءات وتجارب أيقن أن ثقافة العزف المنفرد تحرم الإنسان من المشاركة في أوركسترا حتى لو كان هو المايسترو.
مشاركة :