منذ العام 1845، تجرى الانتخابات الرئاسية الأميركية في أوّل ثلثاء عمل من تشرين الثاني (نوفمبر)، في خيار تمّ أساساً لرعاية مصالح شعب البلاد، الذي كان يعمل آنذاك في قطاع الزراعة في شكل أساسيّ. ويبقى الوضع اليوم على حاله بعد مرور نحو قرنين، مع أنّ انتخابات هذه السنة شكّلت اختراقاً للأعراف السائدة، وتُعتبَر من جوانب عدّة الأكثر غرابةً وبُعداً عمّا بقي معتاداً حتّى أيّامنا هذه. فالانتخابات الراهنة لم تقتصر على أول ترشّح في التاريخ لسيدة ترغب في الوصول إلى سدّة الرئاسة. لكن بالنظر إلى الأسلوب المعتمد، واللغة المستعملة ومواطن الدعم، تختلف هيلاري كلينتون عن دونالد ترامب تمام الاختلاف، ما جعل كثيرين من الأميركيين يعتقدون أن الحملة الانتخابية لهذا العام كانت الأكثر شراسة وقسوةً وضراوةً في حياتهم. لا شك في أن جنس المرشّحَين على علاقة بالموضوع، فترامب بالكاد قادر على إخفاء معاداته للنساء وقلة احترامه للمرأة عموماً. وفي حين يتّضح كم تستمتع كلينتون بالتعاطي معه وكأنّه مجرّد تلميذ أرعن ومسبب للمضايقات في الملعب، ممن يجب الصراخ في وجهه كلّما وجّه الانتقادات، لم تَخلُ مسيرتها من أمور تُعتبَر أكثر خطورةً بكثير ممّا تتّهمه به. ففي مواجهة النقص الفادح في خبرة ترامب السياسية، كونه لم يتبوّأ يوماً أي منصب رسمي في حياته، تملك كلينتون سيرة طويلة من التعاطي بالشأن السياسي، تعود إلى الحقبة التي كانت فيها زوجة حاكم أركنساو في العشرينات من عمرها. وبفضل مسيرتها المهنية هذه، لم تكتفِ بتحقيق إنجازات واضحة كثيرة على صعيد تحسين حياة مئات آلاف الناس، إذ جاء في مقابلها عدد من الأسرار الداكنة التي تخفيها، من إخفاقات سياسيّة ووعود لم تحترمها، ناهيك عن أنها تزوّجت رجلاً لم يكتف الكونغرس بإدانته بخوض علاقة خارج إطار الزواج، بل أيضاً بسلسلة من العشيقات اللواتي جاهرن بعلاقتهنّ به، وقد تقبّلت زوجته هذا الواقع على ما يبدو، من دون أن تطلب الطلاق. وكذلك، يُترجم الاختلاف في الخلفيات والتجربة باختلاف جماهير الناخبين، الذين ينتمون إلى دوائر ديموغرافية وسياسية مختلفة تماماً في الولايات المتّحدة، فنرى ترامب يحقق أفضل النتائج بين الرجال البيض الذين لم يدرسوا في الجامعة، في حين تحقق كلينتون نجاحاً بين النساء اللواتي حصّلن تعليمهنّ في الجامعات – إلى جانب مجموعة ناخبين أكثر اختلافاً من العرقين الأسود واللاتيني، ممّن جذبتهم سياساتها الاجتماعية، وأرعبهم منطق المرشّح المنافس لها الذي يعترض على الهجرة، ويلامس العنصريّة في كثير من الأحيان. ومن هنا أيضاً شعاراتهما التي تكاد تكون متناقضة تماماً، مع كلام ترامب عن الحاجة إلى «إفراغ المستنقع»، قاصداً المؤسسات في واشنطن، وكلام كلينتون عن الحاجة إلى جعل الحكومة تعمل في شكل أفضل، لا سيّما في سبيل خدمة النساء والأولاد. وبشكل عام، وفي حين يُعدّ سلوك هيلاري كلينتون معروفاً على الصعيد المحلي، والأهم ربما، على صعيد الشؤون الخارجية، لا يملك ترامب تاريخاً في هذين المجالين، ما يحثه على إطلاق وعد بأنه سيحتاج، كما يحصل بالنسبة إلى جوانب أخرى من حياته، إلى الاعتماد الشديد على نصائح الخبراء. من هنا، يظهر تناقض أساسي آخر. ففي حين نجحت كلينتون في تطوير سيرة حافلة بانعدام الثقة حيالها بشكل عام، لا سيما بعد أن أُثبت استخدامها، أو سوء استخدامها بالأحرى وفقاً للمزاعم، لخادم البريد الإلكتروني الخاص بها، يظهر ترامب بحلّة نظيفة وجديدة، إلى حدّ يدفع الناس الراغبين في تصديق وعوده إلى الوثوق بتصريحاته العديدة، كي يتسنّى لهم تصديقه والاعتماد على كلماته ووعوده التي صدّقها كثيرون على ما يبدو، كما ظهر من نتائج الانتخابات. وأرى أن السبب يعود أكثر إلى رغبتهم في تصديق الوعود المذكورة هذه، وفي أن يأتي رئيس حازم في تصرّفاته وقادر على إصلاح الأخطاء، بعد أن أصبحوا مقتنعين تماماً بأن الولايات المتحدة تمر بحالة من الفوضى العارمة. ومن هنا، ينجذب الناخبون إلى الشعار الكبير الآخر الذي أطلقه دونالد ترامب، ويقول، «اجعلوا الولايات المتحدة عظيمة مجدداً»، ويحيل فيه ترامب مباشرةً إلى جميع الأشخاص القلقين حيال وضعهم، ومستقبل أولادهم، وبشكل عام حيال مكانهم ضمن «الحلم الأميركي» المزعوم. حتّى الآن، ينعكس مفهوم «التفاحات والبرتقالات» المشهور، الذي أطلقه الفيلسوف فان أورد كوين من جامعة هارفارد، في الخصائص التي تجعل كلينتون وترامب متناقضين بشكل شبه كلّي في ما بينهما، مع أنّ الاثنين لديهما أيضاً نقاط تشابه، وبعضها مفاجئ للغاية، على غرار عجزهما المشترك عن فهم الإنترنت بالشكل المناسب، مع جميع مزاياه ومساوئه، لا سيّما على صعيد السجلاّت التي يخلّفها. وبالنسبة إلى هيلاري كلينتون، نتج الأمر من كون وزارة الخارجية الأميركية والقوات الجوية الأميركية تملكان أنظمة بريد إلكتروني متعارضة، ما يجعل جهاز كومبيوتر شخصياً مرغوباً أكثر من التنقّل إلى مكان بعيد من المنزل كما فعلت كلينتون في الكثير من الأحيان، بغضّ النظر عن الاحتمال بأن تتم قرصنة معلوماتها بكثير من السهولة. أمّا دونالد ترامب، فتسبب اعتماده على التغريدات، بدلاً من البريد الإلكتروني، بعدم استيعابه مثلاً للطريقة التي تمكّن فيها مكتب التحقيقات الفيديرالي من تصفح مئات آلاف رسائل كلينتون في بضعة أيام فقط، علماً بأنّها عمليّة ممكنة عبر الاستعانة بكلمات رئيسية، وبالقدرة على تحديد النُسخ المزدوجة بسرعة فائقة. وكذلك، وقع كلّ من كلينتون وترامب في الفخ الظاهري لما عُرف باسم «مفاجأة تشرين الأول/ أكتوبر»، وهي عبارة عن حدث يطرأ في اللحظة الأخيرة ويرمي جميع الاستعدادات الدقيقة التي قام بها المرشّحان عرض الحائط. وهذه السنة، تمثّل الفخ المذكور بسلسلة من المداخلات غير الحكيمة التي صدرت عن جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي، وقد بدت وكأن فيها انتهاك قوانين طاول وكلاء الحكومة المشاركين في الانتخابات، وعكست عدم إنصاف واضحاً بالنسبة إلى من قام، مثلما فعل ابني، باستغلال الفرصة التي أعطتها بعض الولايات من دون سواها بالتصويت قبل ثلاثة أيام من الانتخابات. وبعد «مفاجأة أكتوبر»، لاحت في الأفق مفاجأة ممكنة في نوفمبر، يحاول في سياقها الرئيس بوتين مثلاً استغلال فترة شغور الرئاسة في واشنطن والقيام بخطوة موجّهة ضدّ أوكرانيا أو القرم. وأخيراً، وبحسب ما أشار عدد كبير من المعلّقين، بلغ ترامب أواخر الستينات من عمره، ما يجعله بين أكبر المرشحين للرئاسة سناً في تاريخ الولايات المتّحدة. ومع أنّه بصحّة جيّدة نسبياً، وهو أمر يجب أن يثبته في كل مناسبة ممكنة، من خلال صعوده سلالم الطائرة ونزولها مثلاً، يُعدّ العمل في منصب الرئاسة من بين الأصعب في العالم، ويكفي في هذا السياق النظر إلى شعر باراك أوباما، الذي يصغر ترامب سنّاً بكثير، وقد ابيضّ كثيراً بعد أشهر قليلة من تبوّئه مقاليد الحكم. وبالتالي، لا بدّ من طرح سؤال مفتوح حول ما إذا كان يمكن لترامب أن يحافظ على لياقة بدنية كافية لتولّيه ولاية رئاسيّة ثانية، فيكون خياره للشخص المعيّن في منصب نائب الرئيس أهم بكثير ممّا هو عليه في العادة. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
مشاركة :