لا تدع رجلا جائعا يحرس الأرز ولا رجلا غاضبا يغسل الصحون بقلم: هيثم حسين

  • 11/10/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لا تدع رجلا جائعا يحرس الأرز ولا رجلا غاضبا يغسل الصحون الحرب مأساة يستعمل فيها الإنسان أفضل ما لديه من خطط وأسلحة ليلحق بنفسه أسوأ ما يصيبه. والحرب تحمل في حروفها كل معاني الخصام والنزاع والقتل وكل الصور البشعة التي رأيناها على مر التاريخ، ومازال العالم إلى اليوم يعيش في دوامتها التي لا خلاص منها وتبدو كأنها بلا نهاية. الموت في كل مكان والأشلاء على الطرقات والدماء تغطي الأرض في الأزقة والشوارع، وهذه بعض التفاصيل الصغيرة التي حاول الكتّاب نقلها من خلال أعمال روائية وثّقت كل المشاهد المفزعة والأحداث المرعبة. العربهيثم حسين [نُشرفي2016/11/10، العدد: 10451، ص(14)] بشاعة وجه الحرب (لوحة للفنان العالمي سلفادور دالي) تعود الكندية كيم إكلين في روايتها “المفقود” إلى الحرب الكمبودية التي دامت قرابة أربع سنوات بين 1975 و1979 وما تبعها من مراحل كان من شأنها أن تفاقم التفتت الاجتماعي والأسري، وتسهم في انتشار عصابات القتل والإجرام في كل مكان. ضد الحرب تنوّه إكلين بملاحظة تاريخية تفيد فيها بأن أحداث روايتها، الصادرة عن منشورات ممدوح عدوان، ترجمة أماني لازار، تقع في أثناء الإبادة الجماعية الكمبودية في فترة الحرب التي قضى فيها قرابة المليون شخص. الراوية آن عاشقة كندية تستذكر رحلتها الخطيرة إلى أعماق كمبوديا بعد ثلاثين سنة من انقضائها، إذ اختارت أن تقتفي آثار حبيبها الكمبوديّ سيري العائد إلى بلده، فتقرّر خوض غمار رحلتها في البحث عنه بعد عقد من رحيله، لتحتفظ بذكراه وحبه وتسعى إلى إنقاذه من أتون الحرب الذي ألقى بنفسه فيه حين اختار الذهاب لإنقاذ أهله، لكنه ظل مقيّدا بواقعه الجديد الذي دمر البلاد وشوّه أبناءها. وتكتب له آن ما يشبه رسالة بوح ومصارحة واعتراف، تحكي له عن حياتها وكأنها تقوم بتذكيره بما كان وما يجب أن يصبح عليه ليكمل مساره الذي بدأه في عالم الفن والموسيقى، وأنه لا يجوز للحرب أن تخطف هؤلاء المبدعين من أبناء البلاد الذين تعقد عليهم الآمال. وتقول له إنه تغيب لمدَّة ست سنوات وتعلم كي يعود إلى الوطن متقنا ثلاث لغات، ليصطبغ بعادات وخصال الغرب. كما تخبره بأن أصدقاءه الموسيقيين غنَّوا ضدَّ الحرب وكان لديهم حبٌّ أكبر للسلام، وتصف ذلك الزمن بأنه كان زمنا يؤمن فيه الشبَّان بأن العالم يمكن أن يكون بلا حدود مثل الموسيقى، وتعتقد أن ذلك كان ساذجا في النظر إلى الوراء. وتؤكد له أن تعلقها الغريب به لم يكن ناتجا عن فراغ، وأنها تخطت كل التحذيرات التي كان يسوّقها والدها ومن حولها لإقناعها بتجنب علاقتها معه، كما تؤكد له أنها لم تشعر أبدا بأن للعرق أو اللغة أو القانون أي حرمة. كان كلّ شيء إحساسا غريزيا وموسيقى. وتقول له “كنت صليبي، عذابي وولادتي الجديدة. أحببت عينيك، الالتماس الحنون في صوتك في أثناء الغناء”. وتقوم بتذكيره بمساعيه في مراسلة المنظمات الدولية لإطلاعها على أوضاع بلده البائسة، كما تذكره بحديثها له عن القنابل التي اخترقت سوق البورصة والقنابل في صناديق البريد ومنزل العمدة، ورجال مخطوفين، وسياسيين تركوا ليختنقوا في شاحنة طوال سبعة أيام. قصة الشغب المعقد الذي يصاحب التبدل في الأنظمة، وكيف يتطلب الدفاع عن الحرية والحقوق الفردية يقظة مستمرة كما أخبرته كيف أوقفت الشرطة والدها توقيفا تعسُّفيا فقط لأنه درَّس في الجامعة؟ وتصف له ما كان يجري بأنه إرهاب إجرامي، وتؤكد على ملاحظة والدها بأنّ العنف يحوّل الناس إلى أشياء. وتؤكّد له أيضا أنها رأت العالم معه بوضوح أكبر، كما لو أنّها وضعت عدسات جديدة. وتقول إنها في لحظات كانت تودّ ألا ترى بوضوح كبير. وأرادت أن تعرف كلَّ شيء عنه، وكيف كانت شابَّة ولم تعرف نفسها إلا معرفة طفيفة. وتستعيد قدومه إليها وقضاءهما أوقاتا رائعة على الجبل، وإخباره حينها لها بأنه عازم على الذهاب للعثور على عائلته. لوح كتابة متشظ تبوح الراوية آن لحبيبها سيري بمناجاة وأسى وأنها أرادت حينها أن يجد عائلته ميتة ليكون لها. أرادت أن يتغيَّر كلُّ شيءٍ، وأن يبقى كلُّ شيء على حاله إلى الأبد. أرادت أن تمحو كلَّ خطيئة من قدرها. وتراها تستعيد صدى كلمات والدها الذي كان يردد بأنه سيتركها ويعود إلى وطنه، وتقرّ لحبيبها بألم ظلّ يقضّ مضجعها “لقد استدعتك الحرب”. وتعترف له بأنها أحبّت الحكمة الشعبية الكمبودية التي تقول “لا تدع رجلا جائعا يحرس الأرز، لا تدع رجلا غاضبا يغسل الصحون”. كما تحكي لقطة مؤثرة من يومياتها، وهي تشاهد التلفزيون، فتخبره كيف كان الفيتناميون ينسحبون والأمم المتَّحدة تشكِّل حكومةً انتقالية في كمبوديا. وتقول إنها شاهدت أفلاما سينمائية عن الحرب وضحايا بسبب الألغام الأرضية ويأس الجوع وركام الجماجم الأجوف، غير أنها لم ترَ يوما صورا لكمبوديا في محاولتها التماثلَ للشفاء. وتمضي وحيدة للبحث عنه متسلحة بحبها الكبير له ورغبتها القاتلة في احتضانه، ولكنها حرصت قبل ذلك على تعلم لغة الخمير الحمر، حيث تلفت إلى أنها لم تكن واثقة من طريقة العثور عليه، كما لم تكن واثقة من رغبته هو في ذلك، وتصف لقطات من مشاهداتها العابرة على قارعة الطريق في مدن كمبوديا، وانتشار أناس بأعضاء مبتورة وتشوّهات بارزة. كانت آثار الحرب وتشوّهاتها بارزة للعيان في التفاصيل كلّها. لوح كتابة متشظّ وما إن تلتقي آن حبيبها بعد مشقة البحث أو ما يشبه المعجزة حتى تفقده فقدا نهائيا من خلال تفجير يستهدف تجمّعا للداعين إلى الديمقراطية، وكان التفجير انتقاما منهم على تجرئهم على انتقاد السلطة وعقابا لهم على تمردهم عليها. ولكن قبلها تخبره عن البؤس الذي حل بعد تسمية “السنة صفر”، وكيف صار للبلاد اسم جديد. وتتساءل عن كيفية حدوث ذاك التغيير الكارثي بين ليلة وضحاها في تلك البلاد، ومأساة أنّه في السنة صفر لم يعد للماضي أي وجود في عرفهم وزعمهم. وتصف الروائية كمبوديا على لسان أحد أبطالها بأنها كانت مثل لوح كتابة متشظّ، وكيف أنّه قبل أن يفكِّروا في الرسم عليه، كان عليهم أن يجدوا القطع ويعيدوا جمعها من جديد، لكنّ أحدا لم يكترث لمداواة جروحها الغائرة ولا هدهدة جراحها النازفة، بل كان الكل يبحث عن حصته من الكعكة التي تعرضت للتفسّخ والتشويه. وتحكي آن عن مجاعة أغرقت كمبوديا أثناء الحرب وبعدها وعن أمراض فتكت بها وبأهلها، وعن أعداد هائلة من اللاجئين الذين كانوا يعيشون على الحدود، وكيف تمت تصفية أغلب المتعلمين في البلاد، كما تمت تصفية الموسيقيين والفنانين والرهبان البوذيين، ودمّرت الطرقات والجسور، وظلّت البلاد مزروعة بالألغام على نحو كبير. وبقي هناك الكثير من الفصائل المتناحرة التي نزعت إلى العنف والقوة للوصول إلى السلطة. وتذكر إكلين في حوارها الملحق بروايتها أنها أرادت أن تروي قصة الشغب المعقد الذي يصاحب التبدل في الأنظمة السياسية، وكيف يتطلب الدفاع عن الحرية والحقوق الفردية يقظة مستمرة، وكيف تخلق الحكومات المتكتمة الظروف لتعطيل حقوق الإنسان. وتؤكد أن حقوق الأفراد مسؤولية الجميع ويجب على الناس في جميع أرجاء الكوكب أن يجدوا الشجاعة للتحدث ومقاومة حكوماتهم إذا كانت الحريات مشوّهة أو مورّثة. :: اقرأ أيضاً الكاتبة العراقية ميادة خليل: الكاتب العربي مازال مقيدا 150 شاعرا من 27 دولة عربية وأجنبية في مسابقة أمير الشعراء عزت العلايلي من معرض الشارقة للكتاب: الفنان مسؤول عن المجتمع ستات قادرة مسلسل جريء افتقد حيوية الأداء والإخراج

مشاركة :