ابني بحاجة إلى طبيب نفسي

  • 3/18/2014
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

«ابني الصغير يُفضّل اللعب بدمى البنات»! «ابني الصغير الذكر يشمّ شعر قريباته منتشياً بروائح عطورهنّ النسائيّة، ويمشّط شعرهنّ». «ابني الصغير يُفضّل اللعب مع الفتيات»... تلك كانت بعض المآسي الكبرى التي داومت على تنغيص حياة عائلتنا الصغيرة. من جانبي كنتُ أفكّر أنّها حالة موقتة وستنتهي بعد سنوات مهما طالت. بينما شعرت زوجتي بالرعب بعد أن رزقنا بطفل ذكر آخر، بعد ثلاث سنوات من عمر الأوّل مؤلّف المآسي. قد يؤثّر في الآخر بنزعته الغريبة هذه، وقد يصبح مثله. قالت لي. ولم أعرف بماذا أجيب سوى بالابتسام الخفيف، وبالرجفة في اليدين. ربّما أنا السبب في التغييّر الذي حصل لطفلي البكر هذا عندما كان جنيناً في رحم أمه؛ إذ لطالما تمنّيتُ حينها أن يكون طفلة، وليس طفلاً. وكنتُ في أشهر الحمل الأولى أفكّر في مقدار فرحي عندما تكون لديّ صديقة صغيرة من دمي. كنتُ أفكر بانتظارها حتّى أعود من العمل، وبشوقي لها طوال ساعات العمل الثقيلة. أو بشوقها المفاجئ وهي غارقة في ألعابها الكثيرة عندما تراني أصبحت في مدخل البيت، فتترك كلّ شيء وتركض إليّ. أو بلؤمها في عدم الركض إليّ إذا نسيتُ تنفيذ طلب لها؛ فتتظاهر بعدم رؤيتي. ولكن طوال الأشهر الأولى من الحمل تلك لم أكن أفكر باسم لها. يبدو أن أملي كان منحصراً في مجيئها، وبعدها تكون كلّ الأشياء التكميليّة متاحة. كانت حماتي تستغرب أمنيتي بأن يكون طفلي الأوّل بنتاً. هي المرأة كانت تجد ذلك غريباً، وربّما معيباً في البيئة الريفيّة التي ما زلنا نتمرّغ فيها. ربّما كانت مع الفكرة التي تقول انّ الذكر سيحمل اسم العائلة، رغم أنّه لن يحمل اسم عائلتها. وأنّ الذكر سند أبيه. رغم أنّني أجد أن الفتاة هي سند أبيها أيضاً، وربّما أكثر. وأنّ تغيير حياتي، هكذا كنت أشعر، سيكون على يديها؛ على يدي تلك الفتاة الضعيفة الحنطيّة اللون، والخضراء العينين، لأب سيحاول ألا يبدو ضعيفاً أو مريضاً أمامها. أمي أيضاً فزعت من الفكرة، التي تصل الى مرحلة الشؤم بالنسبة اليها، وهي المرأة أيضاً. وعندما كنتُ آخذ زوجتي كلّ شهر مرّتين الى الطبيبة كي تراقب وضعها ووضع الجنين، (لماذا لا يقولون «الجنينة» مثلاً في بعض الأحيان؟)، كانت توشوش في أذني بألا أدلّل زوجتي لهذه الدرجة؛ فالدلال يُفسد أفضل زوجة، وبأنّها، مثلها مثل باقي مجايلاتها القرويات، كنّ ينجبن أثناء عملهنّ في الأرض. وكنّ يقطعن حبل السرّة، ويضعن الجنين في ظلّ شجرة، ويتابعن أعمالهنّ الشّاقة باعتياد. وعندما عرفت الطبيبة النسائيّة الروسيّة، التي تزوجت طبيباً من عندنا وعادت معه من روسيا، التي درسا فيها، جنس الجنين في رحم زوجتي، لم تقل لها. بل طلبت أن آتي إليها كي تبشّرني بنفسها. وعندما رأت الطبيبةُ الخيبة على وجهي عندما لم يكن ابني بنتاً واستني! وقالت انّني الحالة الأولى هنا، منذ مجيئها منذ ثماني سنوات، التي رغبت أن يكون بكرها بنتاً. وبعد أن أجرى الطبيب الجرّاح العملية القيصريّة لزوجتي قال لها بعد استيقاظها من التخدير: «انبسطي. ألله عطاك ولد. مين قدّك!». هو الطبيب والواعي والدارس، والذي لا بدّ من أن يملك الحدّ الأدنى من الثقافة، لم يُراع رغبتي المجهولة من جانبه. رغم أنّ رغبتي الوحيدة والشديدة كانت عندما حملت زوجتي السيروم المعلق في يدها، برفقة الممرضة، وذهبت إلى غرفة العمليات، هي أن تنجو بنفسها على الأقل. يبدو أنّ كلّهم كانوا يُريدون طفلي الأوّل ذكراً وتحقّقت أمنيتهم. ولكنّ رغبتي المعاكسة، ربّما، لا بل بالتأكيد، هي التي سمّمت حياة ولدي البكر بين أقرانه. ومن ثمّ لدى كلّ أطفال العائلات التي كنّا نزورها؛ فكان ابني يذهب معهم إلى غرف ألعابهم، ثمّ يعود خائباً إن لم يجد «عرائس» هناك؛ لأنّ أطفال تلك العائلة كانوا ذكوراً. أو أن يغيب طويلاً هناك إذا حدث العكس، ولم يسخر منه أحد في تلك الغرف. ولكن أخاه الصغير، الذي كان يندهش لسلوك أخيه الكبير عندما وعى قليلاً، صار يغفر له في ما بعد، ويدافع عنه أمام الآخرين المستهزئين، وكأنّه هو الأخ الكبير. كم كنتُ أتألّم لأنّ أحد الصغار كان يصيح بابني: «أيتها الفتاة»، عندما كانا يتخاصمان لأيّ سبب. ولم أكن أتدخل. بل أترك ولدي يتصرّف وحده مشوياً فوق منقل الألم الحارق. كنتُ أضغط على يده، في طريق عودتنا، كي لا تنفر الدموع من عيوننا، وهو ما زال يسمع تلك «الشتيمة» خلفه لا تتبدّد، كلّما توقّف أحدنا عن الحديث المصطنع. صار حمزة يرسم. وهو يرسم بشكل جيّد وجوه الفتيات وشعرهنّ الذي يغطي العين اليمنى، وأثوابهنّ الطويلة والمزركشة. كان هذا رعباً جديداً في البيت. ولكنّ عمّه المحترف في الرسم انتشلنا بدلو ماء بارد من بئر هلعنا، عندما مدح موهبته وجودة رسمه، وطريقة مسكه المحترفة لأقلام التلوين. وعندما كنّا نطلب منه رسم أشياء أخرى كان يرسمها بلا تأفّف أو تردّد. وهذا ما جعل الخوف يجلس قليلاً بجانبنا، وليس في صدورنا. مرة رسم شمساً داخل حوض ماء للأسماك. وعندما سألته: لماذا رسمها هكذا والشمس مكانها في السماء؟ فأجابني: كنتُ سأرسم حورية بحر جميلة في الحوض، وكنتم ستنزعجون. أحد الحلول التي اقترحتها على زوجتي، هي تسجيله في معهد يُعلم الصغار العزف على الآلات الموسيقيّة. وكم كنتُ أتمنى لو أنّه سيختار آلة الكمان، بسبب شخصيّته الرقيقة، وعينيه الجميلتين. ولكنّنا توقعنا أن يختار آلة «الطبلة» كي يظل يلعب سعيداً ومحسوداً خلف الراقصة الجميلة، بشعرها الطويل وفستانها الممزّق. وكان هذا بالضبط جوابه السريع عندما فتحنا معه الموضوع. كادت زوجتي أن تفقد أعصابها مع تكرار مثل هذه الحوادث. ولكن مع مجيء صديقنا عيسى المجاز في علم النفس التحليلي، وزوجته هبة مديرة مركز التوحّد، رمينا كلّ مآسينا تلك بين يديهما. كنّا بحاجة الى طبيب نفسيّ، والآن أتى اثنان. قلت لعيسى، بعد أن شرحت له كلّ شيء: هل ابني الصغير بحاجة إلى طبيب نفسيّ؟ لم يجبني. ولكنّهما ظلا يُراقبان ابني عن كثب، ويسألانه عن أشياء كثيرة، وهو يُجيبهما بدقّة طبيب زميل لهما وليس كمريض. وفي نهاية تجربتهما جاءا لطفليّ بألعاب «ذكوريّة» مختلفة لم يختر منها حمزة سوى سيّارة حمراء سرعان ما لاقت حتفها وتكسّرت، بينما فاز أخوه ببقيّة الألعاب. كان من الواضح أنّ الضغط على الطفل، وربّما الكبار أيضاً، من أجل ترك شيء معيّن، أو عدم القيام بعمل معين، يشبه دفعه نحو التشبّث بذلك الشيء، ودوام القيام بذلك العمل. أي تحت يافطة: «كلّ شيء ممنوع مرغوب». لذلك قلتُ لزوجتي بأنّه من غير المعقول أن يحمل ابننا، عندما يُصبح في العشرين من عمره، دمية معه إلى الجامعة، كي يلعب بها في استراحة المحاضرات. «دعيه للزمن». قلت لها. «ولكن من دون ضغوطات كبيرة عليه أو مراقبة لكلّ تصرفاته أو انتقاص من شخصيّته». تابعتُ كلامي مقبوض القلب. لم تكن هناك مشكلة في ابني الصغير والطيب، والذي تحمّل كلّ هذه الآلام. بل المشكلة كانت فينا نحن: سكان الجزء المتخلّف من كوكب الأرض، الذين نحتاج إلى مصحّ نفسيّ حديث. فالآلات الموسيقيّة، أيّاً كانت، يمكن عزفها من الجنسين. وكذلك الألعاب الرياضيّة. ورسم الفتيات أو الاهتمام بألعابهنّ ومظهرهنّ كان بسبب كثرة الإناث حوله، واللواتي قمن بمشاركة حياته في الصغر، وكذلك بسبب اهتمامه بالجمال... كنّا نعلّل لأنفسنا. وكنّا نقول هي «حرية شخصيّة» في النهاية وعلينا احترامها. ولم أعد أشعر بالرعب عندما يتصّل بي ابني من هاتف أمه، ويكون حوله الكثير من الناس، ويقول لي: لا تتأخر. ثم يطلب هامساً، كي لا يستهزأ به أحد، أن أجلب له «عروساً» جميلة من السوق كما وعدته. أسمع كلامه الهامس، ولكنّني أطلب منه أن يرفع صوته. وألا يخجل من أحد. فيرفع صوته ليسمعه الجميع، وينهي اتصاله بقبلة طويلة على الهاتف.

مشاركة :