خلال حملته الانتخابية، كان الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترمب، من أشد منتقدي منظمة التجارة العالمية واتفاقات التجارة الحرة الإقليمية التي وقعتها الولايات المتحدة، واصفا الأولى بـ "الكارثة" والثانية بـ "المؤذية" للاقتصاد الأمريكي. وإذا كان توقيع اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" في عام 1994 مع كندا والمكسيك، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ "بين دول نافتا وشيلي وبيرو مع سبع دول آسيوية" من ضمن أهدافه المفضلة، إلا أن الرئيس الجديد عبر عتبة جديدة في 24 تموز (يوليو) الماضي عندما تكلم مباشرة عن "خروج" الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية، بهدف إعادة رسوم جمركية من 15 في المائة إلى 35 في المائة على المنتجات القادمة من المكسيك. الإدارة الأمريكية الجديدة وموقفها من منظمة التجارة، بقاء الولايات المتحدة فيها أو الانسحاب منها، إمكانية اتجاه الاقتصاد العالمي الأول للحمائية؟ كانت جوهر ندوة اقتصادية أقامها نادي الصحافة السويسري في جنيف أمس. باختصار، هناك إجماع بين المتحاورين على أنه ما إن يتولى الرئيس الأمريكي المنتخب السلطة بعد نحو 70 يوما من الآن، فإنه يمكن أن يخفف من خطابه طالما كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى التجارة الحرة. عندما قالت له مجموعة صغيرة من الصحافيين "إن مقترحاته بشأن المفاوضات التجارية مع المكسيك لن تمر مع قوانين هذه المؤسسة التي يوجد مقرها في جنيف"، أجاب المرشح الجمهوري في حينه "سنقوم بإعادة التفاوض، أو الخروج من منظمة التجارة العالمية، هذه الاتفاقات التجارية تشكل كارثة، منظمة التجارة العالمية كارثة". ومقترحات ترمب الاقتصادية قد تؤدي إلى اقتصاد أمريكي أكثر عزلة خاصة أن الحقائق قد تعترض طريقه نحو تنفيذ وعوده الاقتصادية. حول هذا الموضوع، قال، جان-بيير ليمان أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في معهد "آي أم دي" في لوزان، الذي وُلد في الولايات المتحدة، "إن منظمة التجارة لم تنتظر انتخاب، دونالد ترمب، لإنقاص أهميتها". وقال "إن فشل جولة الدوحة، وإبرام الاتفاقات الإقليمية الضخمة - اتفاقية الشراكة والاستثمار عبر الأطلسي، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ - قد عجّلت من انحدار نموذج منظمة التجارة في إبرام الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف". وقال "الخبر السار أن هذه الاتفاقات الإقليمية الضخمة هي ميتة الآن إلى حد كبير. النبأ السيئ أنه لا يوجد هناك شيء يحل محلها". ولم يشك، فرانسوا لونكشان، الوزير في حكومة مقاطعة جنيف، للحظة واحدة أنه ما أن يتسلم، دونالد ترمب، السلطة في بداية كانون الثاني (يناير) المقبل، حتى يبتتعد بمسافة معينة عن البيانات التي أطلقها خلال حملته الانتخابية. وقال "بالتأكيد أن دونالد ترمب، أدلى بتصريحات مثيرة حول منظمة التجارة، لكن أود أن أذكّر أن مَن أطلق اسم "الجزائر فرنسية" في حملاته الانتخابية هو الذي أنهى الاستعمار الفرنسي للجزائر". وأعاد، فرانسوا لونكشان، إلى الأذهان أن مهمة منظمة التجارة العالمية هي تبسيط التجارة، وتسهيلها، وجعلها حرة تنتقل بلا حدود جمركية، "وهذه كلها أمور حيوية للولايات المتحدة، كيف يمكن أن تدير ظهرها لها"؟ وقال "من الواضح أن دونالد ترمب سيدرك بسرعة أنه لن يكون بمقدوره تأسيس وظائف في الولايات المتحدة بخروجه من هذا النظام". وأضاف "علينا أن نتذكر أن منظمة التجارة تقوم على مبدأ صفقة شاملة (خذها كلها أو اتركها كلها)، وأن الإدارة الأمريكية تعرف أهمية المنظمة بالنسبة إلى قطاع الزراعة أو صناعة الصادرات الأمريكية، أعتقد أن إدارة، ترمب، ستُذكّر الرئيس بسرعة، إذا اقتضى الأمر، أن منظمة التجارة العالمية ليست عديمة الفائدة تماما". ولم يبدِ، سيدريك دوبون، الأستاذ في معهد الدراسات العليا في جنيف والمختص في التجارة الدولية، أدنى قلق بشأن مستقبل المنظمة التي تتحكم بنحو 98 في المائة من التجارة الدولية. وأعاد إلى الأذهان أيضا أن كلا من، دونالد ترمب، والمرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، أطلقا خطبا مصبوغة بالحمائية خلال حملتهما الانتخابية. وقال "إنه مع عجز تجاري هائل تعانيه الولايات المتحدة لم يتم خفضه، ومع دولار قوي "معاد للصادرات" ارتفع سعره في السنوات الأخيرة مقابل العملات الدولية الرئيسة الأخرى، ليس لدى الرئيس الأمريكي الجديد سوى قليل من الخيارات، ليس منها الانسحاب من منظمة التجارة على الإطلاق". ولا يعتقد، سيدريك دوبونت، بعودة حقيقية للولايات المتحدة إلى الحمائية. وقال، "المرة الأخيرة التي حاولت فيها اللجوء إلى الحمائية، كانت في الثلاثينات من القرن الماضي، لكن الأمريكيين فهموا بسرعة أن الخطوة التي اتخذوها لم تعمل، ولم تنجح، وأن اقتصادهم بحاجة إلى بقية العالم. النتيجة: أصبحت الولايات المتحدة المؤيد الرئيس للتجارة الحرة خلال نصف القرن الذي أعقب ذلك". بالنسبة لسيدريك دوبونت، فإن، دونالد ترمب، قد يتخذ خطوات رمزية في الأجل القصير، مثل إدخال ضرائب جديدة على المنتجات الصينية والمكسيكية أو تدابير مكافحة الإغراق. لكن على المدى الطويل، سيتوجب على الرئيس القادم أن يكون أكثر عقلانية، حسب تعبيره. لكن إجراءات ترمب المناهضة للتجارة قد تسبب ضررا كبيرا للمستهلكين الأمريكيين بمن فيهم أنصاره. وقال "الأعمال التجارية هي الأعمال التجارية، فإذا كان الأمريكيون يريدون امتلاك القدرة لشراء "آي فون" في المستقبل، فسيحتاجون إلى الصين، المنتجة له". وقال "قبل كل شيء، ينبغي لقرارات، دونالد ترمب، أن تمر عبر الكونجرس إذا كان يعتزم إعادة التفاوض بشأن الاتفاقات التجارية مثل "نافتا" أو اتفاقية الشراكة عبر الهادئ. وعلى الرغم من أن الكونجرس، بمجلسيه، يقع الآن تحت أغلبية الجمهوريين، إلا أن هذا لا يعني أن جميع أعضائه مقتنعون أو مؤيدون للحمائية". ما يتعلق بقضية التمويل التي أثارها أحد المتداخلين، خاصة أن واشنطن هي أكبر مساهم في ميزانية منظمة التجارة، قال، سيدريك دوبونت، "إنه من الممكن أن يقوم، دونالد ترمب، بتقليص مشاركة الولايات المتحدة". غير أن القلق الأكبر يتعلق بالمنظمات غير التجارية، إذ من المحتمل أن يعود العالم إلى ما يسمى بـ "عالم الأمم الكبيرة"، عالم تناقش فيه الدول الكبرى الأمور الرئيسة بينها مباشرة دون أن تلجأ إلى المؤسسات متعددة الأطراف.
مشاركة :