ربما تعد القناعة الوحيدة بين أنصار الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب وخصومه، أن تأثيره سيكون مؤثرا وقويا في الاقتصاد الأمريكي الدولي، وربما كانت الملاحظة الأولى في التداعيات الاقتصادية لفوز ترمب بالانتخابات الأمريكية، هي الهزة السلبية نسبيا في الأسواق العالمية وتأثير ذلك في الدولار الأمريكي، بمجرد إعلان النتيجة، لكن سرعان ما استعادت الأسواق توازنها المفقود، الأمر الذي اعتبره كثير من المختصين بادرة تفهم من قبل الأسواق لطبيعة المرحلة المقبلة والاستعداد للتعامل معها. ويحدد البروفيسور جيفري بارتون أستاذ الاقتصاد الدولي والاستشاري في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الإطار النظري الذي ستنعكس من خلاله السياسات الاقتصادية لترمب على الاقتصاد العالمي، مؤكدا أن هناك عددا من الآليات ستنعكس بها سياسة ترمب على الاقتصاد الدولي، بعض هذه الآليات سيكون مباشرا، وبعضها سيكون غير مباشر، لافتا إلى أن من ضمن الآليات غير المباشرة طبيعة السياسات التي سيتبعها لإصلاح الاقتصاد الأمريكي، حيث إن التركيز الراهن على السياسات المالية سيتراجع لمصلحة السياسات الضريبية، وسيحدث عملية انتقال من الاقتصاد الاقتصادي إلى الاقتصاد السياسي، الأمر الذي سيمثل في حالة نجاحه النهج الاقتصادي الذي سيتم تبنيه دوليا، كما أن انتعاش الاقتصاد الأمريكي أو تراجعه سيؤثر في الاقتصاد الدولي بشكل غير مباشر. وقال لـ "الاقتصادية"، "إن هناك عاملين رئيسين ضمن الآليات المباشرة، الأول يتمثل في تأثير واشنطن في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي، ومن ثم تأثير أمريكا في قرارات وآليات الإقراض، ما يؤثر مباشرة في عديد من الاقتصادات حول العالم"، لافتا إلى أن العامل الآخر هو تعهد ترمب بإعادة النظر في العلاقات التجارية مع الصين، والتوتر المتوقع بين البلدين، وهذا سيضغط بدرجة ملحوظة على معدلات نمو التجارة الدولية، وعلى أسواق العملات، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين اليوان الصيني والدولار الأمريكي. من جهتها تعتقد الدكتورة سو تشيلد أستاذة التجارة الدولية أن دونالد ترمب غير معني كثيرا بانعكاسات سياسته على الاقتصاد العالمي، وأن تركيزه الأساسي والوحيد سيكون على الاقتصاد الأمريكي، مؤكدة أن المرحلة المقبلة ستشهد درجة أعلى من الحمائية الاقتصادية، ما يفتح مجالا واسعا لحرب عملات ونزاعات تجارية قوية، وبالطبع سيؤثر ذلك في معدلات نمو الاقتصاد الدولي. وأضافت "علينا أن نقر أولا بأن وصول ترمب للسلطة يعني تراجعا في أفكار الليبرالية الاقتصادية لسنوات مقبلة، وعلى الرغم من أن الكونجرس قد يحد نسبيا من العداء الراهن في خطاب ترمب لحرية التجارة، ودعوته لفرض رسوم على الصادرات الصينية بنحو 45 في المائة، وإلغاء اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA، فإن الاندفاع نحو السياسات الحمائية، قد يتواكب في بدايته مع ارتفاع في معدلات النمو الاقتصادي الداخلي، خاصة إذا ترافق مع سياسات تحفيز ضريبية، تتضمن خفض الضرائب على الأعمال، ومزيد من الإقراض للاستثمار في مجال البنية الاساسية". وأفادت أن تلك التوليفة الاقتصادية ربما تؤدي إلى ارتفاع في معدلات النمو في الأجل القصير، وتخلق حالة من الانتعاش الاقتصادي، لكن عندما تبدأ الاقتصادات الأخرى في تبني سياسات مماثلة، وتعمل على غلق أسواقها في وجه السلع الأمريكية، وفي خفض عملتها المحلية لرفع حصتها من الصادرات، وخفض وارادتها، فإن التجارة الدولية ستتراجع بشكل ملحوظ، وسيتراجع معها النمو الاقتصادي الدولي. وأكدت أنه يمكن القول "إن وضع الاقتصاد الدولي خلال عهد ترمب، سيتوقف على العلاقات الاقتصادية المستقبلية بين الولايات المتحدة وأسيا عامة والعلاقات مع الصين خاصة، فاذا أصر الرئيس الأمريكي الجديد على المضي قدما في سياسته الداعية إلى سحب الشركات الأمريكية العاملة في آسيا والصين وإعادتها إلى أمريكا، فإن ذلك سيحدث هزة في سوق الأسهم، خاصة في تلك الدول، وسيؤثر في القدرة الاقتصادية لتلك البلدان، على سداد أعباء الدين الخارجي". ويعتقد داني هكلين المختص المصرفي أن الواقع الاقتصادي سيكون أكثر قوة من الدعوات الحمائية لترمب، إذ يقول "يلاحظ أن أول التصريحات الاقتصادية التي صرح بها الرئيس ترمب في أعقاب فوزه ولقائه الرئيس باراك أوباما، صبت في مصلحة المصارف الكبرى، حيث تعهد بالتخلص من عديد من القيود التي تحد من حريات المصارف، التي تم تبنيها خلال جهود لضبط سلوك النظام المصرفي الدولي جراء الأزمة المالية لعام 2008، كما قال "إن الهدف من ذلك هو زيادة قدرة النظام المصرفي على الإقراض مرة أخرى، الأمر الذي يعني أن قطاع الخدمات سيصبح خلال المرحلة المقبلة في مقدمة القطاعات الاقتصادية التي سترتفع فيها معدلات النمو، إذ إن جوهر سياسته هو مزيد من المنافسة، مع خفض القيود والقواعد التنظيمية، ما سينعكس على الاقتصاد الدولي بشكل كامل". وأضاف "التراجع المؤقت في سوق الأسهم في أعقاب إعلان نتائج الانتخابات، لم يمنع أسهم المصارف الكبرى مثل جي بي مورجان وجولدن ساش ومورجان ستانلي من الارتفاع، إذ زادت قيمة أسهم تلك المصارف بما يراوح بين 5 و7 في المائة، حتى المصارف الأمريكية الأصغر يتوقع أن ترتفع أرباحها، كما أن التحسن امتد إلى المصارف الأوروبية"، مشيرا إلى أن قيمة أسهم بنك كريدت سويس ارتفعت بـ 9 في المائة، وبركليز ودويتشه بنك الألماني بـ 5 في المائة. وأشار إلى أن نجاح ترمب في إنعاش القطاع المصرفي من خلال إعادة النظر في مجموعة القواعد المنظمة لعملها، سيصعب عرقلة حركة التجارة الدولية، ولا سيما أن الفوائض المالية التي ستحققها المصارف الدولية الكبرى، يجب أن تجد لها مجالات للاستثمار في قطاعات أخرى، وإلا فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يعني عمليا أن التحسن الاقتصادي المزمع تحقيقه لن يترجم في شكل ارتفاع في مستويات معيشة المواطن الأمريكي. وفي هذا السياق تبدو وجهة نظر تشارلز هوجهارت المختص الاقتصادي والاستشاري في مجال أسعار العملات أكثر تفاؤلا بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل حكم ترمب، إذ يقول "أعتقد أن معدل نمو الاقتصاد العالمي سيرتفع في عهد حكم الجمهوريين إلى حدود 4 في المائة، فأولا هناك مناخ تفاؤلي بين كبار رجال الأعمال في العالم بشأن الانعكاسات الإيجابية لسياسة ترمب الاقتصادية على قطاع الاعمال، كما أن سياسته ستنعكس إيجابا على العملة الأمريكية، ولا سيما أن الارتفاع المتواصل للدولار الأمريكي، حد كثيرا من قدرة الولايات المتحدة التصديرية، ورفع تكلفة المواد الأولية، أو السلع شبه المصنعة التي تستوردها الولايات المتحدة"، لافتا إلى أن التقلب الحالي في قيمة الدولار مؤقت، ومتوقع أن يستمر لنحو عام، أو أقل قليلا، وذلك حتى تتضح معالم السياسة المالية لترمب وفريقه الاقتصادي، وعلى الأمد الطويل فإن سياسة الرئيس الجديد ستؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار في مواجهة العملات الأخرى. وأبان أن إمكانية نشوب نزاعات تجارية عالمية واردة نظريا، لكن يصعب أن تقوم أي من بلدان منطقة اليورو، أو اليابان بالدخول في نزاع تجاري واضح وصريح مع الولايات المتحدة، كما أن الصين عليها أن تفكر كثيرا قبل الإقدام على خطوة من هذا القبيل، في ظل الاتهامات الموجهة إلى السلطات المالية وتحديدا البنك المركزي الصيني بالتلاعب في قيمة العملة المحلية وخفضها متعمدا لزيادة الصادرات. وأضاف "الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للصين، والصادرات الصينية، وحتى قبل انتخاب ترمب، تراجعت العام الماضي بنحو 7.3 في المائة، والسياسة الاقتصادية الجديدة لبكين تعمل على التحول من سياسة النمو المعتمد على التصدير للخارج، إلى النمو المعتمد على زيادة الاستهلاك المحلي، ومن ثم سيكون من الصعب على الصين في الوقت الراهن أن تدخل في مواجهة تجارية مع الولايات المتحدة". أما دان هيلار الباحث في منظمة التجارة العالمية، فيرفض تلك الرؤية تماما ويقول "أعتقد أن العالم لم يكن قريبا من اندلاع حرب تجارية بمقدار ما هو عليه الآن جراء وصول دونالد ترمب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، فتعهد ترمب بفرض رسوم جمركية بنحو 45 في المائة على الصادرات الصينية، والضغط على الشركات الأمريكية للانسحاب من الأسواق الصينية، لا يمكن إلا أن تواجهه بكين بسياسات مماثلة، فإذا كان حجم الديون الأمريكية ممثلة في سندات الخزانة نحو 18 تريليون دولار، من بينهم تقريبا تريليونا دولار للصين، وإذا أدركنا أن حجم التبادل التجاري بين بكين وواشنطن بلغ 250 مليار دولار سنويا، تقريبا ما يمثل ربع التجارة الدولية في مجال الصادرات، فعلينا أن نتخيل حجم الاضطراب الذي يمكن أن تحدثه الضغوط الأمريكية على الصين سواء عبر الدولار وانخفاض سعر صرفه في مواجهة اليوان، أو باتباع سياسات حمائية على حجم التبادل التجاري بينهما". وأكد هيلا أن الخطر الأكبر يكمن في أن أي ضرر في العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، أو الولايات المتحدة والمكسيك سيمتد حتما إلى منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وأيضا إلى منطقة أمريكا اللاتينية، وهو ما قد يوجد وضعا يتجاوز الركود الاقتصادي إلى الكساد.
مشاركة :