وقف الغراب يعاتب نفسه ما الذي سيتغير، وما الفرق إن قلت له كلينتون أم ترامب، ستسقط منّي قطعة الجبن في كلتا الحالتين، ليتني احتفظت برأيي، بل لماذا يكون لي رأي أصلا؟. العربحكيم مرزوقي [نُشرفي2016/11/13، العدد: 10454، ص(24)] خاطب الثعلب الغراب في لهجة حاسمة "عزيزي الغراب، هل أنت مع كلينتون أم ترامب.. هيّا قل رأيك دون خوف أو تردّد، فنحن في غابة ديمقراطية، لا تحرج ولا تبال بلونك الأسود بعد اليوم". حرّك الغراب رأسه في إشارة إلى أنّ الأمر لا يعنيه، لكنّ الثعلب أصرّ على الأمر واستعجله فيه، فهو الذي يترأس لجنة استطلاعات الرأي في “الغابة الديمقراطية”. همّ الغراب بالإجابة فوقعت قطعة الجبن (نفس قطعة الجبن في الحكاية المعروفة)، التقطها الثعلب ولاذ -طبعا- بالفرار. وقف الغراب يعاتب نفسه "ما الذي سيتغير، وما الفرق إن قلت له كلينتون أم ترامب، ستسقط منّي قطعة الجبن في كلتا الحالتين، ليتني احتفظت برأيي، بل لماذا يكون لي رأي أصلا؟". صاحبنا الغراب هذا، هو نفسه بطل أقدم كاريكاتير في التاريخ، إذ رسمه أحد بناة الأهرام على جدار كهفه الحزين وهو يطلع السلّم درجة إثر درجة، يكابد على نفسه والعرق يتصبب غزيرا من ريشه المنتوف ومنقاره المغمّس في الإهانة. هكذا خرج كل رسّامي الكاريكاتير في العالم من عباءة الغراب السوداء، وجعلوا من المتفرّج القارئ، شريكا بالتعليق أو مكتفيا بالابتسامة، خصوصا بالنسبة إلى أولئك الذين لا يحبون فتح أفواههم خوفا على لقمة، ولو من جبنة وخبز وزيتون. كان صاحب الرسم كاظما لغيظه، ومرهقا مثل غراب يتسلّق سلّما، رغم كلّ ما أوتي من ريش.. وقدرة على التحليق فوق تلك المقبرة الأعجوبة. ولأنّ فنّ المفارقات لا تصنعه إلاّ المفارقات، فإنّ الأهرام (هذه القبور القصور) بناها أموات تأجّل دفنهم، وما زلنا إلى الآن نشاهد في قاهرة المعزّ فئة (لا بأس بها) تسكن المدافن، تجاور وتحاور الأموات وقد محت كل الفوارق اللفظيّة. بعض الناس طيور لا تحبّ الطيران، أو تخافه، وتكره قراءة قول الشابي "ومن لا يحب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر". لم يكن ذلك الرسم فوق السحاب، وإنّما بالحجر، وعلى الحجر.. وفي كهف مظلم لا تدخله الشمس ولا ثعالب السلطة، عفوا.. وماذا سيحدث لو أخرج الرسم من السرّ إلى العلن؟ هل كان سيخفّف من معاناة صاحبه؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون فعلا "تطهيريّا"، يمنح صاحبه التوازن والقدرة على الحلم والطيران، ولو بأجنحة متكسّرة. قد نستغرب من أولئك الذين يقبّلون أيادي جلاديهم، ولا يدعون عليها حتّى بالكسر كأضعف الإيمان، ولكن مهلا.. ماذا سيحصل إن دعوا عليها بالكسر أو بالبقاء أو حتى جهروا بآرائهم ودعواتهم؟ لكنّ لهذه الحكاية طعما آخر: أطبق السيّد الروماني بقبضته على يد حواريّ نحيف، قال الأخير "احذر يدي يا سيّدي"، شدّد السيّد بقوة فهمس الحواريّ "يدي تؤلمني، أظنّك ستكسر يدي يا سيدي"، فعلها السّيد وكسر يد الحواريّ الذي ردّ بنفس الصوت الخافت "ألم أقل لك إنك ستكسر يدي يا سيّدي". حكيم مرزوقي :: مقالات أخرى لـ حكيم مرزوقي غابة الديمقراطية , 2016/11/13 العداقة لا تزال قائمة بين الشعوب العربية والولايات المتحدة, 2016/11/08 يحيا الرعاة , 2016/11/06 حدود الابتعاد عن الفصحى أو الاقتراب منها بين المشرق والمغرب, 2016/11/01 قرطاج كمان وكمان, 2016/10/30 أرشيف الكاتب
مشاركة :