د. خليل حسين إنها أمريكا.. بلاد العجائب والغرائب، حيث للقانون حكمه وسطوته، لكن ثمة استثناء لكل قاعدة وعرف. نظام رئاسي يُحتذى به، لكن الرئيس لا يُنتخب مباشرة من الشعب، بل عبر مندوبين، رغم ذلك ومهما قيل في انتخابات الرئاسة تبقى ديمقراطيتها مثلاً ومثالاً، فتداول السلطة من مقدسات النظام الدستوري والسياسي الأمريكي عبر قرون، فالخاسر حتى ولو بأصوات قليلة جداً، يتصل بخصمه ويهنئه، ولو أن الطعن متاح، لكن قلما استعمل، إلا إذا كان الطاعن متأكداً من الوقائع التي يستند إليها. تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة مع دونالد ترامب وهيلاري كيلنتون، فريدة من نوعها في التاريخ الانتخابي الأمريكي، إنْ لجهة الترشيح أو الحملات التي أقيمت لها، أو النتائج التي تمَّ التوصل إليها، علاوة على تداعياتها الداخلية والخارجية. فالرئيس ترامب الآتي من خارج البيئة السياسية للحزب الجمهوري، تمكن من فرض نفسه ترشيحاً وسط ظروف حزبية صعبة، فيما كلينتون، الآتية من وسط حزبي وسياسي ديمقراطي، لم تعانِ المصاعب نفسها، بل أصبحت عبئاً على حزبها، فيما الحزب الجمهوري بات عبئاً على ترامب، سيما وأن خطاباته وانتقاداته لم توفر حتى الجمهوريين أنفسهم. وفيما لم يوفر ترامب وسيلة لمواجهة غريمته حتى بالجوانب الشخصية، فإن الأخيرة تمكنت من الإفلات من أفخاخ دعائية كثيرة وُجِّهت لها، ورغم ذلك، لم تسعفها دبلوماسيتها المعهودة في الوصول إلى البيت الأبيض. والمفارقة الأكثر غرابة في الانتخابات عينها، قلب المزاج الشعبي الأمريكي بصور دراماتيكية مذهلة؛ وبخاصة في بعض الولايات المحسوبة والمحسومة لصالح الديمقراطيين، إذ إن فوز ترامب قررته بعض الولايات التي يحلم الجمهوريون باكتساحها، كفلوريدا وميتشيغن وويسكنسون وغيرها، والأمر اللافت هنا، أن الفارق في تصويت الولايات لم يكن متقارباً، وهو أمر غير مألوف في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عادة. ثمة من يشيع أن هناك حالة ترامبية ستسود سياسات الرئيس داخلياً وخارجياً، ورغم أن الرؤساء الأمريكيين محكومون بشكل عام بمؤسسات تُسهم بشكل عام بصناعة القرار، إلا أن شخصيته المثيرة للجدل، ستترك بصمات فارقة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية، فخطاباته الشعبوية وشعاراته الجاذبة، جعلت منه حزباً ثالثاً إلى جانب الحزبين الديمقراطي والجمهوري، نظراً لفشل الحزبين في تنفيذ التزاماتهما خلال الفترات الرئاسية السابقة. ومن هنا من غير المستبعد بتاتاً، أن تشكل برامجه وسياساته حالة خاصة تتميز عن سابقاتها. الأمر عينه ينسحب على السياسة الخارجية التي يمكن أن يتبعها، وبخاصة ما يشاع عن استدعاء عتاة المحافظين الجدد الذين حكموا أمريكا إبان حقبة الرئيس جورج بوش الابن، ومن بينهم جون بولتون على سبيل المثال لا الحصر، ما يعني أن متاعب ومصاعب كثيرة تنتظر بعض الدول الحليفة والعدوة على حد سواء. فالحذر والقلق والخوف تمدد في غير دولة أوروبية، وشرق أوسطية، وهنا تبدو المفارقات واضحة مع صعوبة فهمها وهضمها. ذلك مقاربة ومقارنة بمواقف أمريكية تجاه بعض القضايا، فمثلاً ثمة غزل سياسي واضح بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس المنتخب دونالد ترامب، فيما القلق يسود الشارع الإيراني حليف روسيا على قاعدة الخوف من موقف ترامب من الاتفاق النووي، بينما ثمة من يضحك في سره من حلفاء إيران وأعدائها لوصول ترامب للرئاسة. والأمر لا يقتصر على ذلك في شخصيته وسياساته، فكأنه يسبح عكس تيار القيم والإيديولوجيات الليبرالية التي غذتها وكرستها الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فمن العولمة وتحرير التجارة الخارجية، إلى سياسات القوقعة والعزلة التي ينادي بها، ومن سياسات الأبواب المفتوحة للمهاجرين، إلى سياسات المواجهة والمنع والقمع، وصولاً إلى سياسات الجدران العازلة، ومن قيم الحوارات والتسامح إلى سياسات الفوبيا ومنها الإسلامية. فعلاً إنها أمريكا.. انتخابات الولايات المتأرجحة الأمريكية، التي صنعت معجزة لم يكن حتى المحيطون بترامب يتوقعونها، فوز في عقر دار الديمقراطيين، سيطرة جمهورية على مجلسي النواب والشيوخ، رئيس فاز بأغلبية شعبية نتيجة فشل الحزبين، وجاذبية الوعود التي أطلقها... إنها أمريكا ورؤساؤها.
مشاركة :