على رغم مرور أكثر من عام على رحيل معالج الإدمان السعودي يوسف الصالح، لكن ذكراه تبقى حاضرةً في وجدان السعوديين، فقصة الراحل تحولت إلى نموذج يُحتذى به في «العزيمة والتحدي»، و«مصدر إلهام وأمل» للأجيال السعودية الشابة في مواجهة المخدرات، بعدما تحول من «مدمن ميؤوس منه»، إلى واحد من أشهر معالجي الإدمان في بلاده، وربما في الخليج العربي. فبعد رحلة إدمان استمرت 20 عاماً تعاطى فيها كل ما خدرّ من المخدارات والحشيش، وأسكر من الخمور، استفاق يوسف الصالح من «كابوس طويل»، ليطفئ سيجارة «موته البطيء» ويضيء فانوس الأمل، مرشداً مئات الشباب التائهين في ظلمات المخدرات، وملهماً إياهم في محاضراته الإردشادية التي طاف بها أنحاء المملكة كافة، ووصل صداها إلى الإذاعات والفضائيات، بالإضافة إلى شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. بداية، لم يكن يدرك الشاب «الملتزم» يوسف الذي لم يكن يفارق المسجد، أن أربع حبات ملفوفة في منديل ستقلب حياته رأساً على عقب، وتكون الخطوة الأولى في طريق إدمانه المليء في المحطات «المؤلمة»، دخل فيها السجن ثماني مرات، ومستشفى الأمل لمعالجة الإدمان 19 مرة، إلى جانب طرده من البيت وتشرده في الشوارع وطلاقه لاحقاً من زوجته. وشكلت قصة الصالح التي رواها في مناسبات عدة، نقطة تحول لدى كثيرين من الشباب. فعلى غرار ما يفعله بعض المراهقين، حاول الطالب يوسف إيجاد حلول سريعة تمكنه من الدراسة بكفاءة، بعدما هدده والده بالعقاب إذا لم ينجح. ولم يسعفه مقترح رفاقه في مكتبة أحد مساجد مدينة الدمام بـ«الصلاة والدعاء» لتتيسّر أموره، إذ كان ذاك الحل «مضيعة للوقت» في نظره حينها، ما دفعه إلى اللجوء إلى طلاب «الرجّة» (الفاشلين) ليعطوه الحبة الأولى، زاعمين أنها ستمنحه «قوة خارقةً في الحفظ السريع»، وهو ما لم يحدث مطلقاً، ما استدعى حبة ثانية، فثالثة حتى أصبح في عداد المدمنين. تواصلت القصة، كما رواها هو عشرات المرات في محاضرات ألقاها في مخيمات أُقيمت في مناطق السعودية كافة، وحُفظت في أشرطة كاسيت، تم تداولها على نطاق واسع، وسجلها أيضاً في كتاب صدر لاحقاً، وحقق مبيعات كبيرة، حين حاول التخلص من الأرق الدائم نتيجة تعاطي الحبوب. ورضخ يوسف لنصيحة أحد الباعة الذين كان يتعامل معهم للحصول على الحبوب، بشرب الخمر حتى «يفتك» بها، فراح يشتري الخمر ويشربه، لكن رائحته القوية كادت تفضحه أمام عائلته «المحافظة»، فبدأ بالبحث عن بدائل حتى وجد ضالته في الحشيش. لكن سرعان ما اكتشفت أمه تعاطيه المخدرات، وحرصت على عدم معرفة والده وجارت ابنها في الأمر، ما دفع يوسف إلى ابتزازها بإعطائه المال في مقابل عدم فضح الأمر، وتكرر ذلك مع أخته الشابة التي علمت لاحقاً، ثم مع أخيه المقبل على الزواج، وأخيراً مع أبيه الذي خشي من «الفضيحة». وبعد خمس سنوات من تعاطي الحشيش، دعاه رفاقه إلى تجربة «شيء جديد»، كان الهيروين ليبدأ في تعاطيه لمدة 15 عاماً. وبعدما ضاقت الأسرة «المحافظة» في يوسف ذرعاً، قرر السفر إلى بلد يستطيع فيه التعاطي بحرية، فتوجه إلى تايلاند قبل منع السفر إليها، وما أن لبث فيها أربعة أيام فقط، حتى ضبطته الشرطة بتهمة الترويج، وسُجن هناك لمدة تسعة أشهر في زنزانة مساحتها عشرة أمتار طولاً وخمسة عرضاً، يُحتجز فيها 100 رجل، ينام نصفهم ويبقى الآخرون مستيقظين، وهكذا بالتناوب لضيق المساحة، ثم عاد إلى بلاده بعد خروجه من السجن. فقرر أهله أن يزوجوه، علّ مسؤولية الزواج تساعد في شفائه، لكن قصة إدمانه كانت انتشرت بين الناس، فلم ترض أية عائلة بتزويجه. ولجأ إلى بلدة بعيدة في أطراف الرياض ليتزوج فتاةً من أسرة بسيطة، مخفياً عنهم حقيقة أمره. وكحال أسرته، علمت زوجته لاحقاً بأمر تعاطيه بعدما أوهمها أن ما يتعاطاه كان دواءً لمرض مزمن يعاني منه، وأخذ يبيع كل ما تملك من ذهب لشراء الهيروين، وبينما كانت زوجته حاملاً بطفله في الشهر الثامن، اُوقف مع مروج مخدرات ذو وظيفة مرموقة، كان يوسف يعمل لديه في مقابل التعاطي. وأمضى في السجن سبعة أعوام لحمله وزر القضية عن مروج المخدرات. وبعد خروجه من السجن، لم يستطع التعرف إلى ولده الذي كان في السابعة، فتوجه إلى صاحب الوظيفة المرموقة، لكنه تبرّأ منه وطرده، وبعد ستة أشهر سُجن مرة أخرى لمدة سنة ونصف السنة بتهمة التعاطي. ويستذكر يوسف الصالح بحرقة وألم خلال محاضراته كيف حوله التعاطي إلى «وحش مسعور»، أدى به في أحد المواقف إلى ضرب والدته ووقوعها أرضاً، لمحاولتها منعه من الخروج رمضان، بينما كان مفطراً والناس صيام، حتى أنها لم تستطع رفع رأسها من على الأرض، وسمعها تقول وهو يهم بالخروج: «روح الله لا يوفقك لا في دنيا ولا في آخرة»، ويقول الصالح: «والله بعد 100 متر من المنزل، لم أر إلا راسي تحت وأرجلي فوق، وثلاثة أشخاص يضربوني ضرباً مبرحاً وكأنهم 100 شخص». وفي حادث آخر، يروي الصالح: «كنت برفقة صديقي، وكنا في حاجة للمال لنشتري فيه مخدر، فرأينا طفلة تبلغ من العمر ثماني سنوات، ترتدي حلية من الذهب فعزمنا على سرقتها»، مضيفاً: «أمسك صديقي الطفلة وأنا أخذت الذهب، وهي تصيح: حرام عليكم لا تأخذونه أنا أبوي ميت». ويستطرد متأثراً وهو يكاد يبكي: «والله والله أن الطفلة تطلعلي (أراها) في الليل والنهار». وتعرّض يوسف الصالح لحوداث أخرى، سرق في واحدٍ منها المخدرات من يد مدمن فارق الحياة نتيجة جرعة زائدة. وتكرر الأمر بشكل معاكس عندما فقد وعيه نتيجة الإفراط في التعاطي، فما كان من رفاقه إلا أن رموه في حاوية قمامة، ظناً منهم أنه فارق الحياة، بعدما سرقوا ما في حوزته من مخدرات، ولاذوا بالفرار. ولكن، وبعد 20 سنة من إدمان أنهك جسد يوسف الصالح وعقله، حتى أصبح «حالة ميؤوساً منها»، أضاءت بارقة أمل على يد متطوع، رمى له طوق النجاة، وأخذ يسحبه إلى بر الأمان بالمواظبة على زيارته في السجن أو المستشفى. ويروي الصالح أنه كان يكره ذلك الشخص ولا يطيقه، ويحاول طرده كلما زاره، لكن الرجل صبر عليه وتحمله وأصر على مساعدته، وبعد ستة أشهر تحسنت حاله، وقابل المدير العام لمكافحة المخدرات الأسبق اللواء سلطان الحارثي، الذي رتب له موعداً مع الرئيس العام لرعاية الشباب حينها الراحل الأمير فيصل بن فهد، والذي كان يتولى رئاسة اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات. وعبر الصالح إلى الأمير فيصل عن رغبته في دراسة «معالجة الإدمان» في الولايات المتحدة، فطلب منه الأمير أن يثبت نفسه أولاً. واستطاع الصالح إثبات نفسه والسفر إلى الولايات المتحدة ودراسة «معالجة الإدمان» لمدة أربعة أعوام، عاد بعدها ليعين اختصاصياً في المجال نفسه في "مجمع الأمل للصحة النفسية" في الدمام، ويبدأ مسيرة مكافحة المخدرات خارج أسوار المجمع أيضاً، واستمر في ذلك لحوالى عقد ونصف العقد. وكان الصالح يردد دائماً: «لدي شهادتين، شهادة خبرة لـ20 سنة في الحياة، والثانية من جامعة مينيسوتا في أميركا». وتوفي يوسف الصالح في آب (أغسطس) 2015 في الولايات المتحدة الأميركية، بعد صراع مع مرض سرطان الكبد عن عمر ناهز 54 عاماً. وكان من أواخر التغريدات التي أطلقها عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»: «القلب الأبيض هو من يتمنى الخير للجميع دون استثناء، فسعادة الآخرين لن تأخذ من سعادتك وغناهم لن ينقص من رزقك وصحتهم لن تسلبك عافيتك».
مشاركة :