كشفت دراسة علميّة دوليّة أنّ الحروب التي اندلعت في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة، خلّفت وباءً متناميّاً حملته سموم فتّاكة وطاولت آثاره ملايين الأطفال في المنطقة. وأشارت الدراسة إلى أنّ الأسباب المعروفة لذلك الوباء تشمل تعرّض الحوامل لمواد كيماويّة صناعيّة، خصوصاً تلك المحمّلة بمادة الرصاص. ونظراً إلى خطورة تلك المشكلة الصحيّة العالميّة، أضحى القياس الدقيق لمستوى تعرّض الحوامل لتلك السموم، يمثّل أولوية علميّة حاضراً. وكذلك ينصح علماء بفحص مستوى مادة الرصاص في الأسنان اللبنيّة التي تنشأ في الحياة الجنينية، باعتبارها وسيلة مهمة لقياس التعرّض لتلك المادة أثناء الحمل. نشرت تفاصيل تلك الدراسة في عدد الخريف لمجلة علميّة دوليّة هي «مجلة الرصد البيئي وتقويمه». وحملت الدراسة عنوان: «التعرّض للمعادن قبل الولادة في الشرق الأوسط: بصمة الحرب في الأسنان اللبنية للأطفال». قادت فريق تلك الدراسة عالمة السموم البيئيّة البروفسورة موزغان صافابي أصفهاني، وهي مختصّة أميركيّة من أصول إيرانية، حائزة جائزة دوليّة تكريماً لبحوثها العلميّة المكرّسة لدور الحرب في التشوّهات الخلقيّة في العراق. وتكوّن الفريق العلمي الذي قادته صافابي أصفهاني من بحّاثة في كليّة الصحة العامة في «جامعة ميشيغن»، وقسم الولادة والأمراض النسائيّة في كلية الطب في «جامعة البصرة»، وقسم طب أسنان الأطفال في كلية طب الأسنان في «الجامعة اللبنانيّة»، ومركز بحوث طب الأسنان في كلية طب الأسنان في «جامعة أصفهان للعلوم الطبيّة». تلوّث الجينات بالمعادن أوردت دراسة البروفسورة صافابي أصفهاني أيضاً أن عدداً من الدراسات العلميّة الدوليّة وثّق آثار التعرّض للملوثات الناجمة عن الحروب، إضافة إلى رصد التلوّث الذي يصدر عن القواعد العسكريّة ونفاياتها. وأشارت إلى تعرّض الأطفال في الشرق الأوسط لسموم المعادن الثقيلة، خصوصاً أولئك الذين يعيشون في مناطق قريبة من ميادين القتال. وكذلك رصدت حصول زيادة حادة في العيوب الخلقيّة ونِسَبْ الولادات المبكرة وحالات الإجهاض المتكرر وغيرها. وكذلك وثّقت حدوث زيادة في السرطانات تشمل سرطان الدم لدى الأطفال في العراق وعدد من بلدان الشرق الأوسط. وأشارت إلى أن التشوّهات الخلقيّة الولادية مثّلت 15 في المئة من الولادات في مستشفى البصرة، فيما لا يتجاوز معدّلها الطبيعي الـ 4 في المئة. وبين فحص شعر الأطفال وآبائهم وجود معدلات عالية من الزئبق والرصاص والتيتانيوم ومواد سامة اخرى. وفي سياق متّصل، أكدت دراسة لعالمة الجينات الإيطاليّة باولا مندوكا من «جامعة جنوا»، نشرتها «مجموعة بحوث الأسلحة الجديدة» في العام 2011، وجود نسب عالية من المعادن الثقيلة في أنسجة لأطفال الفلوجه ممن أصيبوا بتشوهات خلقية وأورام سرطانيّة. وفي العام 2012، نشرت «مجلة السموم والتلوّث البيئي» دراسة علميّة دوليّة لفريق من الباحثين من جامعات ميشيغن والبصرة وأصفهان وتبريز، قادته البرفسورة صافابي أصفهاني أيضاً. ووجدت تلك الدراسة أنّ نسبة الرصاص في أسنان الأطفال المصابين بتشوّهات خلقيّة في البصرة هي 3 أضعاف نسبتها لدى أقرانهم في المناطق غير الملوثة. ولاحظت أنّ مستويات الرصاص في شعر أطفال الفلوجة المصابين بتشوهات خلقيّة تعادل 5 أضعاف مثيلاتها في شعر الأطفال الأصحاء، فيما بلغت مستويات الزئبق 6 أضعاف المستوى الطبيعي! وعلّقت العالمة صافابي أصفهاني على تلك الأرقام بالإشارة إلى أنّها المرّة الأولى التي يوثّق فيها تلوّث معدني ناجم عن القصف المتكرّر للمدن العراقيّة أثناء الحرب. سموم الأعصاب سبق لدراسات علميّة دوليّة أنّ ربطت الزيادة غير المسبوقة في السرطانات والتشوهات الخلقية في مدن العراق، بتعرّض الناس على نطاق واسع لمعادن ثقيلة ذات سميّة عصبيّة. وتأكّد ذلك عبر دراسة حديثة لفريق قادته صافابي أصفهاني نفسها، وكشفت عن كميّات مثيرة للقلق من الرصاص في الأسنان اللبنيّة المتساقطة لأطفال عراقيين في البصرة من المصابين بتشوّهات خلقيّة، تعادل 4 أضعاف أقرانهم في لبنان وإيران. وفي حالات استثنائيّة، وصل ذلك الفارق عينه إلى 50 ضعفاً. وأشارت الدراسة إلى استمرار وجود المعادن في البيئة وإضرارها بصحة الناس، واستمرار سميّتها المؤثّرة في الصحة العامة. وتطاول تلك السميّة صحة الفئات العمرية الحسّاسة كالحوامل والأجنة والأطفال. ونبّهت الدراسة إلى أنّ 3.6 مليون طفل عراقي يواجهون أخطاراً متنوّعة ومميتة، فيما يحتاج 4.7 مليون شخص إلى مساعدات إنسانيّة مختلفة، بأثر من الحروب المتكرّرة في ذلك البلد. وتكتسب دراسة فريق صافابي أصفهاني أهمية استثنائيّة، نظراً إلى تكاملها مع دراسات ونتائج سابقة، وفق ما ورد آنفاً. وكذلك تتوافق مع دراسات أخرى نهضت بها العالمة الإيطاليّة مندوكا والعالم البريطاني كريس باسبي. وهناك حاجة إلى إجراء مزيد من البحوث العلميّة بهدف توضيح آليات تأثير الحرب في الصحة العامة للسكان المدنيّين في الشرق الأوسط، على رغم صعوبة جمع البيانات الدقيقة في ذلك الشأن، خصوصاً أن بعض البيانات كان يتوجّب جمعه أثناء المعارك أو عقبها مباشرة. ويتحمل مستخدمو أسلحة الحرب الحديثة، خصوصاً ذخائر اليورانيوم المستنفد ومطلقو الملوّثات البيئيّة الحربيّة، المسؤولية الأولى عن عدم إجراء ما كان ينبغي إجراؤه، ورفضهم التعاون المباشر مع الوكالات الدوليّة المختصة للوصول الى أسباب الكوارث الصحيّة والبيئية التي تحملها الحروب. ويجدر تذكّر تلك الأمور والمسؤوليات وما يترتب عليها من عواقب، كدفع تعويضات مناسبة والعمل على تنظيف البيئة من مخلّفات الحروب، خصوصاً أنها أمور تدرسها الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية والسبعين. مخلّفات القواعد العسكريّة أوردت الدراسة أنّه في مناطق الحروب، تطلق القنابل والرصاص وأنواع الذخائر المختلفة، ملوّثات بيئيّة متنوّعة، يندرج كثير منها تحت قائمة السموم العصبيّة neurotoxicants، كما تشكّل مجموعة منها عبئاً على الطفولة، بل حتى الأجنة. وكشفت الدراسة أنّ الشرق الأوسط كان مسرحاً رحباً لاختلال بيئي هائل نتيجة للقصف الواسع الذي رافق حروبه الأخيرة. وفي العام 2015، ألقت الولايات المتحدة عشرات آلاف القنابل على الشرق الأوسط، خصوصاً على سورية والعراق. وانبعث من القواعد العسكريّة الأميركيّة في المنطقة، ملوّثات بيئية شديدة السميّة. وذكرت الدراسة أنّ تعرّض الحوامل للمعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق والزرنيخ والكادميوم وغيرها، وهي من المواد السامة التي تنبعث من انفجار الذخائر والقنابل والرصاص وحرق النفايات الحربيّة، ساهم في انتشار تشوّهات خلقيّة وسرطانات لدى الأطفال في العراق وعدد من دول المنطقة. شهادات قدامى المحاربين لم تؤثر تلك السموم في الذين استهدفهم القصف، بل تعدّتهم إلى الجنود المشاركين في ميادين القتال، والأشخاص المقيمين قرب القواعد العسكريّة، إذ ذكرت الدراسة بما توصّل إليه بحث أجراه البنتاغون في العام 2008 لعيّنات من الهواء في أحد مدن العراق (هي مدينة بلد)، ووثّق وجود معدّلات عالية من الجسيمات مكوّنة من مواد تسمّى «الهيدروكاربونات العطرية المتعدّدة الحلقات»، والمركبات العضوية المتطايرة، ومادتي الـ «ديوكسين» والـ «فوران» السامّتين. وكذلك وثّق بحث البنتاغون حدوث وفيات وأمراض متّصلة بتلك المواد عينها. وأشارت دراسة صافابي أصفهاني إلى كتاب ظهر أخيراً بعنوان «حُفَر الحرق» (2016)، من تأليف جوزيف هيكمان وهو رقيب سابق في الجيش الأميركي. ويؤكّد الكتاب أنّ حرق النفايات في القواعد العسكريّة في العراق تسبّب بإصابة 85 ألف عسكري أميركي بأعراض تنفسيّة وعصبيّة وحتى بأمراض سرطانيّة، وفق إثباتات شملت إفادات لـ 500 من قدامى المحاربين الذين تعرّضوا للتلوث. وكذلك وثّق الكتاب أنّ الجيش الأميركي كان يحرق ذخائر ومتفجّرات وأجهزة إلكترونيّة وعلب ألومينيوم وإطارات سيّارات وجثث حيوانات وبطاريات سيارات وغيرها. ورصد حرق قرابة 50 طناً أسبوعيّاً في القاعدة العسكريّة القريبة من مدينة «بلد»، مع التذكير بأن باحثين أميركيّين أكّدا في عامي 2008 و2014، وجود قرابة 500 قاعدة عسكريّة في العراق، ما يعني أنها مارست إحدى أضخم عمليات التلويث المتّصلة بنشاطات عسكريّة غير قتاليّة. * أكاديمي عراقي.
مشاركة :