في العقود الأخيرة لدينا اهتمام متزايد بصور الأسود والأبيض التي وثقت مدن بلاد الشام ومجتمعاتها منذ الربع الأخير للقرن للتاسع عشر، وخصوصاً في بداية القرن العشرين مع التحولات السريعة السياسية والاقتصادية والعمرانية التي قضت على الكثير مما هو موجود. ومن هنا أصبحت الصور الأولى عن بلاد الشام، مع انتشار اختراع التصوير وتطوره (مع اختراع النيغاتيف وتطوير الجيل الجديد من الكاميرات أو آلات التصوير)، تمثل كنزاً للباحثين والمؤرخين والفنانين في عملهم لاستعادة ملامح الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال الصور التي تؤرخ لبداية التحديث العمراني مع «التنظيمات» العثمانية الجديدة في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، ومع الهجرات الجديدة التي حملت جماعات إثنية إلى بلاد الشام (الشركس والشيشان والأرمن والبشناق والألبان) التي حملت شيئا من موطنها الأصلي، والمنشآت الجديدة (البلديات والمدارس والمستشفيات) والمقاهي والمسارح الأولى التي كانت تعبر عن الثقافة الجديدة، والورش الحرفية التي توضح أدوات العمل وأزياءه والتنوع الكبير في الأزياء، سواء داخل المدن أو من مدينة إلى أخرى. وممّن وعى أهمية الصورة في التاريخ العمراني والاجتماعي الباحث الأردني محمد رفيع، الذي جمع بين تخصصه المهني (الهندسة المدنية) وعشقه للتاريخ ومدينته عمان وأصدر الألبوم الضخم «عمان في صور الكولونية الأميركية في القدس 1898- 1946» (عمان 2016). صحيح أن هناك من سبق محمد رفيع في نشر صور قديمة عن عمان في بعض الكتب التي تناولت تاريخ عمان مثل كتاب «عمان تاريخ وصور» لرسلان رمضان بكج (2014) في القرن العشرين، الذي تحولت فيه من قرية إلى عاصمة مليونية، إلا أن الجديد في هذا العمل هو وعي المؤرخ بأهمية الصورة في التأريخ للتحولات الاجتماعية والعمرانية باعتبارها وثائق مرئية مهمة لدراسة التاريخ، وبالتالي في الحرص على الوصول الى صور/ وثائق جديدة، وهو ما وُفّق فيه بالوصول إلى كنز من الصور الذي أنتجته «الكولونية الأميركية» في القدس خلال وجودها هناك 1881- 1946 . وأما الأمر الآخر المهم، فهو العمل المهني في اختيار الصور وشرح تفاصيلها في الهوامش، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم التغير الذي طرأ على عمان خلال تحولها من قرية إلى بلدة مع مجلس بلدية في 1909 برئاسة الشركسي إسماعيل أرسلان بابوق إلى عاصمة لدولة جديدة في المنطقة (إمارة شرق الأردن) 1921. وتجدر الإشارة إلى أن اختراع التصوير الفوتوغرافي في 1839 قد تزامن مع الاهتمام الأوروبي الاستشراقي والانجذاب الرومانسي إلى الشرق، وهو ما دفع بعشرات المصورين الأوروبيين إلى بلاد الشام ومصر لالتقاط الصور الأولى (التي كانت تظهر الشرق على حقيقته لأول مرة) التي كانت تنشر في الكتب والجرائد والبطاقات البريدية... إلخ. فقد وُجد في الشرق الأدنى خلال 1839- 1885 أكثر من 250 مصوراً غربياً، وكثير منهم اجتذبته الأرض المقدسة (فلسطين) وجوارها (شرق الأردن). ومن أشهر هؤلاء فيليكس وأدريان والسيدة بونفيس، الذين فتحوا أول استوديو في بيروت عام 1867 ثم فتحوا فرعاً في القدس. أما في ما يتعلق بمصدر الصور (الكولونية الأميركية) فقد تأسست كمستوطنة عام 1881 من قبل جمعية مسيحية تبشيرية، واجتذبت مستوطنين من الولايات المتحدة والسويد الذين حملوا معهم مهارات فنية وحرفية، ومن ذلك التصوير. ونظراً إلى أن فكرة الكولونية كانت تقوم على خلق اكتفاء ذاتي لأعضائها بما تملكه من مزارع وأبقار، فقد افتتحت أيضا المتجر التابع لها قرب باب الخليل الذي كان ينتج ويسوّق الصور والألبومات والبطاقات البريدية للسيّاح الذين يزورون القدس. ومع أن فلسطين كانت تشغل اهتمام قسم التصوير في الكولونية باعتباره مصدر دخل للكولونيـة إلا أن الجـوار (شرق الأردن) حظي بـاهتمام أفرادها، وهو ما خلف هذه المجموعة القيمة التي اعتمد عليها محمد رفيع لإعداد هذا الألبوم. وتبدو أهمية هذه الصور في كونها تترافق مع نمو عمان وتطورها بسرعة من بلدة الى عاصمة للكيان الجديد الذي تأسّس بعد وصول الأمير عبد الله إليها في آذار 1921. فأقدم صورة ملونة يدوياً في الألبوم تعود إلى نيسان 1921 وتظهر الأمير عبد الله مع المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل أمام مضارب الأمير في ضاحية ماركا، أي بعد شهر واحد فقط من وصول الأمير إلى عمان. ونظرا إلى أن الصور بالأبيض والأسود تغطي مرحلة 1898- 1946 فهي تغطي في الواقع التحول السريع لعمان من قرية إلى عاصمة للكيان الجديد. ففي 1905 عندما زارها علاّمة الشام جمال الدين القاسمي، وجدها «قرية بغالبية شركسية»، وعندما تحولت في 1909 إلى بلدة مع أول مجلس بلدي كان رئيسه الشركسي إسماعيل ارسلان بابوق. ومن هنا تحتل الصور الأولى في الألبوم أهمية كبيرة، من حيث إنها تكشف عن نواة لعمان حين كانت تحيط بها الآثار الرومانية التي لجأ اليها المهاجرون الشركس وبنوا في ساحاتها البيوت الطينية، على حين أنه تمت الاستفادة من حجارة الآثار لاحقاً بعدما تحول البناء من الطين إلى الحجر. ومن هذه الصور من نهاية القرن التاسع عشر لدينا واحدة تكشف عن نواة عمان الأولى حول المسجد العمري القديم (الذي يعود إلى العهد الأموي) حيث يبدو في حالة خربة وتبدو حوله بيوت عمان الطينية المتواضعة ، على حين أن الصور اللاحقة للمكان نفسه بعد تأسيس الإمارة واتخاذ عمان عاصمة لها وإعادة بناء المسجد الحسيني مكانه في 1923 تكشف عن التطور السريع لهذه النواة ونشوء الأسواق والأحياء الجديدة حولها. ومن ناحية أخرى، تكشف الصور الأخرى عن أول مظاهر التحديث العمراني في عمان بعد أن أصبحت عاصمة، ومن ذلك بناء فندق فيلادلفيا الذي بُدئ العمل فيه 1923 وافتتح عام 1928 باعتباره أفخم فندق في عاصمة الإمارة الجديدة والمقر الجديد للأمير عبد الله (قصر رغدان) الذي بُدئ العمل فيه في 1924 ودُشّن في 1927 وغيرها. ومع هذا الكتاب الذي يصدر في الذكرى الـ95 لتأسيس إمارة شرق الأردن، من المأمول أن تصدر في السنوات الخمس اللاحقة ألبومات أخرى تغطي المدن التي لها جاذبية خاصة في تاريخ شرق الأردن، مثل السلط والكرك وغيرها.
مشاركة :