يقول تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، إن الدول التي مر بها إعصار الربيع العربي منيت «بخسارة اقتصادية هائلة بلغت 613.8 مليار دولار من صافي النشاط الاقتصادي، أو ما يقرب من 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة في الفترة بين عام 2011 وحتى عام 2015». الحقيقة، الخسائر غير المنظورة أكبر من هذا كله، فالثورات رسبت تقريبًا في كل شيء وعدت به: في الديمقراطية، والحقوق الفردية، والحريات، والشفافية، والتنمية، والاستقرار، إلى جانب تأمين الوظائف ورفع مستوى المعيشة والازدهار الاقتصادي. لا شيء على الإطلاق منها تحقق، وفِي كل الحالات، تقريبًا، تراجعت بشكل كبير. والذين يؤمنون بأن التغيير مراحل، وأن ثورات الربيع العربي التي هبت في عام 2011 مجرد بداية تمر بنكسة، ستليها أعاصير، فإنهم لن يستطيعوا أن يعثروا على تقدم، ولو بسيط، طرأ على المجتمعات التي تعرضت للثورات. لا أعني التحسن المادي، بل التغيير الفكري. ليس هذا وحسب، بل إن المبادئ التي يفترض أن الثورات قد زرعتها في الشارع، أصيبت بانتكاسة رهيبة، نتيجة حالة الإحباط واليأس والصدمة من النتائج التي تلت عمليات التغيير. لا يستطيع أحد أن يدافع عن عهد وشخص العقيد معمر القذافي، حاكم ليبيا، الذي قامت ضده ثورة شعبية حقيقية، واستمرت حتى قضت على نظامه وقتل هو فيها على أيدي الغاضبين بطريقة وحشية. ومع أن القذافي كان نموذج الديكتاتور المجنون، السيئ، الذي بدد ثروات بلاده، وتركها فقيرة، وأساء معاملة مواطنيه، وكنا نتصور قبل الثورة عليه أن أي بديل للقذافي يستحيل أن يكون أسوأ منه، النتيجة أن ليبيا صارت أسوأ من قبل، وتُحكم من رجال أفظع منه، من عسكر، ومتطرفين دينيين، وقبليين. البلاد في فوضى مستمرة قضت، بالتصفية أو الإبعاد، على القيادات السياسية والمجتمعية الواعية، التي يفترض أنها التي حكمت وحققت التغيير المنشود. والوضع في دول الربيع الأخرى جميعها ليس أفضل حالاً. قد يعتبر البعض ليبيا حالة متطرفة، قياسًا على مهد ثورات الربيع العربي، أي جارتها تونس. صحيح أن تونس تعيش استقرارًا أفضل من ليبيا، وفيها نظام سياسي واحد يحكم، وشيء من المشاركة، وشيء من الحريات. إنما تونس كانت قبل ذلك تعيش هذا «الشيء النسبي» وبدرجة أفضل اجتماعيًا واقتصاديًا. ولا تزال الأوضاع في تونس مرهونة بعقلانية السياسيين وحماية العسكر، وهي غير مضمونة، والتوجس موجود من نتائج أَي هزة غير مأمونة العواقب. المشكلة بنيوية، لا توجد بعد قيم الدولة الحديثة، وهذا يشمل النخبة التي فشلت خلال الثورات في أن تتخطى الطروحات المثالية التي تناسب مواقفها السياسية، الإسلاميون أصروا على أن يكون النظام خاصًا بهم، واليساريون كذلك، وهكذا، حتى أهدروا الفرصة في مصر وتونس وليبيا واليمن. ما الذي تحقق وفق مقاييس الإصلاح والتنمية، أو شعارات الثورة نفسها، حتى في دولة مستقرة مثل مصر؟ لا شيء، وهي تحتاج إلى وقت طويل حتى تعالج نفسها من الجروح التي أصابتها بسبب انتفاضة الربيع العربي. هناك الذين ينكرون فشل ثورات التغيير، ويعتبرون ما جرى مجرد تمرين سيتبعه تغيير! وهناك من يعترفون بالفشل لكن ينقلون التهمة على كتف غيرهم، مدعين أن الثورات قد تعرضت لمؤامرات لإجهاضها. في رأيي أن ثقافة التغيير نحو نظم متطورة تؤمن بقيم حديثة، ليست موجودة كما تصورناها. توجد ثورات خبز، لا ثورات حرية.
مشاركة :