«فهرس» حافل بالحكايا والأخبار المتراكمة، عن الذين كتب عليهم ألا يعيشوا حياة طبيعية، حيث الألم يفرض سطوته على الجميع، يقول كلمته شعراً ونثراً وحزناً، ويطل بوجوه عدة، على أهل الداخل والخارج.. هذا الفهرس يشيّده الكاتب العراقي سنان أنطون في روايته الجديدة، التي تحاول صنع أرشيف لخسائر الحرب والدمار في العراق: «الخسائر اللي ما تتذكر وما تنشاف» على حد تعبير أحد «أبطال» الرواية. مع المؤلف ولد مؤلف «فهرس» سنان أنطون في عام 1967 بالعاصمة العراقية، حصل على بكالوريس في الأدب الإنجليزي من جامعة بغداد. هاجر عام 1991 إلى الولايات المتحدة، حيث أكمل دراساته، وحصل على الماجستير من جامعة جورجتاون عام 1995، والدكتوراه في الأدب العربي من جامعة هارفارد عام 2006. نشر روايته الأولى «إعجام» عام 2003، وترجمت إلى لغات عدة، وظهرت روايته الثانية «وحدها شجرة الرمان» عام 2006، بينما كانت روايته الثالثة «يا مريم» عام 2012. ولسنان أنطون مجموعتان شعريتان: «موشور مبلل بالحروب»، و«ليل واحد في كل كل المدن». ترجم قصائد لمحمود درويش، وأيضاً كتاب «في حضرة الغياب» الذي فاز بجائزة أفضل ترجمة أدبية في الولايات المتحدة وكندا. ويعمل أنطون أستاذاً للأدب العربي في جامعة نيويورك منذ عام 2005. ونشر العديد من المقالات والدراسات الأكاديمية عن الشعر العربي. لا حيلة في الواقع المرّ، ولا يمتلك المبدع العراقي رفاهية الابتعاد عن النزيف المستمر، أو الهروب من الحصار المفروض عليه، لكن المبدع لا يستسلم.. يعثر على الزاوية الخاصة التي تعكس المأساة، وتوثّقها بشكل مغاير، فمن «مقبرة إلكترونية» لدى إنعام كجه جي في رواية «طشاري»، إلى الكائن المسخ عند أحمد سعداوي في «فرانكشتاين في بغداد»، إلى المهمشين وضحية الضحية، إلى الأشياء الصامتة غير المرئية، قد تكون شجرة، أو سجادة، أو عوداً، أو ألبوم طوابع، أو شريط كاسيت، أو جداراً.. وغيرها من المهملات، التي لن يلتفت إليها أحد في أزمنة حافلة بالضحايا وأرقام الموتى.. كما في «فهرس» التي تنهض أعمدتها على تلك الأشياء المنسية، وتترجم حالها و«مشاعرها» ودراما حياتها من البداية إلى النهاية، بشكل سريع، يمتزج بالإطار الكلي للرواية. أبعد من فضفضة رواية سنان أنطون الجديدة، التي صدرت عن منشورات الجمل في 286 صفحة، تقترح شكلها الخاص، تأبى أن تكون مجرد حصر وتعداد للموتى، أو فضفضة للمغترب المهموم، يذهب السرد في غير اتجاه بالشكل والمضمون، وكذلك في الفضاءات الزمانية والمكانية.. تستهل الحكاية في بغداد وتصل إلى الطرف الآخر من العالم، في نيويورك، وحالات من التمزق والهموم والعواصف والأسئلة وما يشبه الوقائع: «في آذار 2004 قرأت مقالة في جريدة (نيويورك تايمز) عن غسل الموتى. تحدثت الصحيفة عن رجل في الثالثة والثلاثين، اسمه رعد عبود، يغسل الجثث منذ كان في الثالثة عشرة. ويتذكر الجثث التي كانت تأتي في الثمانينات عندما كان النظام يعدم ضحاياه. ظن رعد أن الوضع سيتحسن بعد 2003، لكن ما حدث هو العكس تماماً. يبدأ عمله في السابعة صباحاً ولا ينتهي إلا في الخامسة عصراً. يشعر بمسؤولية تجاه الموتى لكنه يكتئب كلما سمع الأخبار لأنه يعرف أن الجثث ستتراكم تحت يديه. نفسيته تعبانة وقد اتخذ قراراً أخيراً بأنه سيكون آخر مغسلجي في عائلته (لن أسمح لابني بأن يرث هذه المهنة، لقد دمرتني). مسحت دمعة سقطت على خدي وأنا أقرأ المقالة.. هزتني تفاصيل وطقوس الغسل وظللت أفكر في رعد وهول ما يلاقيه كل صباح.. خطرت لي فكرة أن أكتب رواية عن رعد عبود ومن هم مثله». ولكن الراوي هنا (نمير البغدادي) كان مشغولاً بنموذج آخر، يكرّم موتى من نوع مغاير، شغوف بالكتب العتيقة، والطبعات الأولى، يحرسها في شارع المتنبي الشهير في العاصمة العراقية، وقبل كل ذلك صاحب فكرة «فهرس» المهملين والمنسيين، وهو ودود عبدالكريم، الذي التقاه (نمير) خلال زيارة للأخير إلى بغداد، إذ فتح له خزانة كتبه، وكشف له عن كنزه الأرشيفي، وأوراقه المخطوطة التي يسميها «فهرس» يطمح إلى الإفلات من هيمنة التاريخ الرسمي والإحصاء «إن كان هناك من يحصي أصلاً»، بعدما كثرت الأعداد، وصار الموت مفردة عادية، لا تثير كثيرين. أشياء في الظل تحتشد مخطوطة نمير بقصص عدة، عن أشياء تعيش في الظل وتموت أيضاً فيه، تشبه «نمير» نفسه، ذلك المثقف المنسي الحارس لكلمات المبدعين الراحلين، والذي تأتي الرواية لتنصفه هو وأشياءه وموهبته الأصيلة، حتى إنها وضعت أكثر من نهاية لنمير، كأنها تأبى أن تحصره في فصل ختامي ضيق، بل تشرع له أكثر من باب، باستطاعة القارئ تخيّر ما يشاء منها. تزدحم رواية «فهرس» بأهل الكتب وعشاقها، وحتى شوارعها، فالشارع البطل هو شارع المتنبي، فضاء نمير الذي يشهد على فصول من حياته، وربما ختامها مع تفجيرات لم ترحم بشراً ولا كتباً ولا كائنات صامتة، شارع حاضر في البداية والنهاية وما بينهما، يتحدث عن ماضٍ وحاضر ومستقبل لا يبين، يبرز الشارع قبلة لمحبي الحرف والغلاف النادر والإهداءات المتفردة، على كتاب قديم، أو ديوان شعر عبّر صاحبه عن آمال وأحلام، لكنه مات بحسرته. شارع المتنبي، كذلك هو «مجمع الأحبة» وملتقى الأشباه والنظائر، فنمير يصادف فيه «ودود»، لتبدأ القصة، وتنسج خيوط رواية ممتدة من العراق إلى الولايات المتحدة، تطرح أسئلة حائرة: كيف يكون المنقذ محتلاً؟ ولماذا تصير الأوطان البديلة بهذه القسوة؟ وكيف الخروج من دوامة التناقضات، والعيش لاجئاً عند من تسبب في ما أنت فيه من ويلات؟.. تلك الأسئلة هي مؤرقات نمير، وسبب أوجاعه، وتأتي هي وسواها عقب زيارة إلى بغداد بصحبة فريق عمل فيلم وثائقي، يعده بعض الأميركيين الذين يقفون على النقيض من ساسة الحرب والاحتلال. زيارة نمير إلى بغداد، جددت الألم وجعلته أكثر ضراوة، فالعائد يرى المكان بعين مختلفة، ويراه أهله كذلك، يضعه البعض في موقف اتهام، بالتلميح والتصريح، ويرجع (نمير) إلى الوطن البديل محملاً بكل ذلك، يرافق بحوثه الأكاديمية، والأدب العربي، ومعلقات وأشعاراً واقتباسات من أبي نواس وأبي الطيب المتنبي والتوحيدي، وغيرهم، توظف إبداعاتهم في نسيج «فهرس» الوجع العراقي: «منذ سنين والخراب والموت يتناوبان على صفع وجوهنا ووجوه مدننا كل صباح. يشطبان الأسماء كلها، أسماء الأمكنة والأحبة، واحداً بعد الآخر. تارة يشطبان بالأحمر القاني الذي يبقي الجراح مفتوحة وتارة أخرى بالأسود الذي يعمي شمس العراق ويطيل ليله الطويل. نعم يا أبا الطيب: رأيت العراق طويل الليل وها هو يطول أكثر من ذي قبل. ليل يخيم الآن بحزن على شارعك الذي طعنوه بالنار وطعنوا صديقي الذي يسكن قلبه. ودود عبدالكريم، اسم آخر سيضاف إلى مسيرة الآلاف المؤلفة من موتى العراق الذاهبين إلى غياهب النسيان والصمت». لا يتهيب الروائي والشاعر سنان أنطون من التجريب في روايته، يسجل الواقع ولكن يذهب بعيداً في التخيل، يجمع بين أزمنة وأمكنة عدة، يضرب في ماضي العراق وحاضره، ليقول كلمته بشكل فني، كي لا تصير الرواية منشوراًَ سياسياً، مطروحاً في صفحات سردية، إذ تكتنز الحكاية بالتفاصيل والهموم الصغيرة والكبيرة، المغترب المأزوم والأكاديمي الباحث عن الذات، وكذلك الوطن الذي يتآكل بمفخخات لا تميز بين بشر أو حجر أو حتى بسطة كتب في شارع المتنبي.
مشاركة :